من الآية 103 الى الآية 106
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاَْمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(103ـ106).
* * *
معاني المفردات
{مُرْجَوْنَ}: مؤخرون.
* * *
خذ من أموالهم صدقة.. وادعهم إلى العمل
وهذا حديثٌ لا يبتعد عن الأجواء العامة للسورة، في ما يريد الله أن يثيره من الاستقامة على الخط المستقيم الذي يتحرك فيه المؤمنون ليعيشوا روح العطاء والتضحية في سبيل الله بالأموال والأنفس، ليؤكد على الصدقات الواجبة، كالزكاة، في ما تعبّر عنه من مضمونٍ روحيٍّ يتصل بالواقع التربويّ الداخليّ للإنسان إلى جانب الواقع الاجتماعي. وذلك هو أسلوب الإسلام في عملية التغيير، فهو يعمل على أن لا يتحوّل التشريع إلى مجرد تقليدٍ عاديٍّ، تقتصر مهمته على الجانب المادي في سدّ حاجة المحرومين من الناس، بل يريده حركةً تتصل بالعمق الروحيّ للإنسان، ليتغيّر الوجه الخارجي للمجتمع من موقع تغيير الداخل، ولهذا اعتبر الفقهاء الضرائب المالية كالزكاة، عبادةً لا بد للإنسان من أن يقصد بها التقرب إلى الله، كما هي الصلاة، ما يوحي بأن الإسلام يؤكد على عباديّة العطاء، كعملٍ يتحرك في الحياة الاجتماعية باسم الله.
* * *
الزكاة تطهير للنفس
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} في ما تمثله الصدقة من التغلّب على كل العوامل السلبيّة من الأنانية والإثرة والبخل والقسوة التي تمثل لوناً من ألوان القذارة الروحيّة التي يعيش فيها الإنسان المشاعر العفنة {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} في ما توحي به من التخلص من حالة الجدب الروحي الذي يمنع الإنسان من النموّ في اتجاه السموّ والانطلاق، ليحل محله الخصب الذي تخضرّ فيه المشاعر وتتنامى، لتُبدع الإنسان الجديد في الخط الجديد {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم بالرزق والطمأنينة والأمن من خلال ما تعطيه الصلاة من معنى الدعاء {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} لأنَّها تمنحهم الشعور بالثقة في مواجهة كل عوامل الضعف التي تهزُّ الإنسان وتشدّه إلى الأرض ليخلد إليها، لما يعيشونه من الإحساس بالقرب من الله الذي يتفضل عليهم بلطفه ورحمته وعفوه وغفرانه، من خلال دعاء النبي لهم، بما يمثله النبيّ من روحيّةٍ ساميةٍ متصلة بالله قريبةٍ إليه. وأيّ سكينةٍ أعظم من السكينة التي يعيشها الإنسان في رحاب الله من خلال رسوله، حيث كل الحياة لله في الأفق الأعلى في أجواء القدس والملكوت، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع الدعاء فيستجيب له، ويعلم عمق الإخلاص في الإنسان، فيرحمه ويعفو عنه ويشمله بلطفه ورضوانه.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فهو الذي خلقهم وعرف مكامن الضعف في نفوسهم وعرف كيف يتساقطون أمام التجربة الصعبة من خلال نوازعهم الذاتية، فأراد لهم أن يتراجعوا عن الانحراف ويأخذوا بأسباب القوّة من جديد، لتستقيم لهم الشخصية الإنسانية التقيّة المؤمنة، ففتح لهم باب التوبة، بأوسع مجالاته، ودعاهم إليها، ووعدهم بقبولها والاستجابة لها، ووجّههم إلى الانفتاح على هذا الجانب من العقيدة، في آفاق المعرفة، ليعلموا سعة رحمته، وعظيم عفوه، لئلا يسقطوا في عقدة المعصية أمام وهدة اليأس. {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} التي يقدمونها في سبيله، من أجل الحصول على رضاه. وقد ورد في بعض الكلمات المأثُورة: «إن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب»[1]، لأن معنى الإنفاق في سبيل الله، يوحي بانطلاق العطاء له، فهو الغاية في ذلك كله، وهو الذي يجزي المعطي عوض عمله {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الذي لا يردّ تائباً عن ساحته، ولا يمنع مذنباً عن رحمته.
* * *
الدعوة إلى العمل
ثم يطرح الشعار الذي أراد الله للإنسان أن يحمله كعنوانٍ للمسيرة كلها، بعيداً عن كل أجواء الاستعراض والمباهاة والكلمات المنفتحة غير المسؤولة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ} فقد جعل الله العمل أمانةً في عنق الإنسان، لأنه هو الذي يؤكد صدق الإيمان وجدّيته، وهو الذي يحقق للحياة نموّها ومصداقيتها وتقدّمها، وهو الذي يجعلها تتحرك في اتجاه التغيير، {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} بسبب ما يطّلع عليه من خفايا عباده وظواهرهم {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} من خلال ما يتابعون به المسيرة من رعايةٍ وعنايةٍ وتقييم.
* * *
معنى أن يرى الله
وربّما حاول البعض أن يتعمّق في معنى الرؤية كما نقل عن محيي الدين ابن العربي في الجزء الرابع من «الفتوحات المكيّة»، وتلخيصه ـ كما جاء في تفسير الكاشف ـ: "إن معنى الرؤية يختلف باختلاف الرائي، فمعنى الرؤية من الله للشيء أن يحيط به علماً من جميع جهاته، ومعناها من الرسول أن يعلم الشيء المرئيّ من وجهة الوحي الذي نزل عليه، ومعناها من المؤمن العارف أن يعلمه بقدر ما علم وفهم من الوحي المنزل على الرسول(ص)". ويتابع صاحب التفسير توضيحه للفكرة فيقول: «وعلى هذا، فمن عمل لله، فإن الله يعلم حقيقة عمله، ويرضى عنه، والرسول يعلم أيضاً أنّ هذا العمل مرضيٌّ عند الله، والمؤمن العارف يعلم أنّه مرضيٌّ عند الرسول، والنتيجة الحتمية لذلك أن من يعمل صالحاً فهو مرضيٌّ عند الله والرسول والمؤمنين..»[2].
ولكننا لا نحسب أن المسألة تحتاج إلى مثل هذا التحليل، أو أنها تتجه هذا الاتجاه في تفسير الآية، فإن الظاهر منها الدعوة إلى العمل تحت رقابة الله والرسول والمؤمنين، في ما يمثله ذلك من تعميق الإِحساس بالمسؤولية في حركة العمل في نفس الإنسان من خلال وعيه للرقابة الشاملة من جميع الجوانب، وربما يؤيّد هذا المعنى الفقرة التالية: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي أحاط بكل شيء علمه، في ما يخفيه الإنسان أو يظهره {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن النبي والمؤمنين إذا رأوا الأعمال، فإنهم لا يملكون الحكم عليها وعلى أهلها، فالله هو الحاكم في عملية التقييم، لأنه المطّلع على خفايا الأمور وبواطنها.
* * *
المرجون لأمر الله
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ} فلم يحسم أمرهم، وتركهم لإرادته في يوم القيامة، فأخّر إعلان الحكم عليهم إلى وقتٍ مّا {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} لأنهم مارسوا ما قد يستحقون العقاب عليه، في الوقت الذي يملكون فيه بعض الصفات أو الأفعال التي قد تؤهلهم للمغفرة لهم والتوبة عليهم. وقد قيل إنها نزلت في قوم تخلّفوا عن النبي في غزوة تبوك فلم يخرجوا معه، ثم ندموا على ذلك، ولكن سبب النزول ـ لو صحّت روايته ـ لا يمثّل حدود الآية في خصوصيته، بل يمثل المنطلق الذي انطلقت الآية منه لتتسع في كل موردٍ مماثل {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عندما يعذّب أو يعفو، فهو يعلم المصلحة هنا أو هناك ويتصرف بالحكمة في هذا أو ذاك.
ــــــــــــــــ
(1) البحار، م:34، ج:93، ص:83، باب:14، رواية:52.
(2) مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، ط:4، 1990م، م:4، ص:98 ـ 99.
تفسير القرآن