تفسير القرآن
التوبة / من الآية 107 إلى الآية 110

 من الآية 107 الى الآية 110
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(107ـ110).

* * *

معاني المفردات

{ضِرَارًا}: الضرار: هو طلب الضرر ومحاولته.

{وَإِرْصَادًا}: ارتقاباً.

{شَفَا جُرُفٍ}: حرفه ونهايته، يضرب به المثل في القرب من الهلاك.

* * *

مناسبة النـزول

جاء في مجمع البيان: قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله(ص) أن يأتيهم، فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء. فلما فرغوا منه، أتوا رسول الله(ص) وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة، فقال(ص): إني على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم، إن شاء الله، فصلّينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.. قال: فوجّه رسول الله(ص) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عمرو بن عوف، فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه، وروي أنه بعث عمار بن ياسر ووحشيّاً، فحرَّقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف[1].

* * *

مسجد ضرار والقيمة الحقيقية للمسجد

إن قيمة المسجد في الإسلام، في ما يمثّله بناؤه من قيمةٍ روحيةٍ، لا تنطلق من الشكل من حيث هو جهدٌ ماليٌّ وبدنيّ وعمرانيٌّ كبيرٌ، بل من المضمون من حيث الدوافع الخيّرة التي تدفع إليه، والأجواء التي تحيط به، والنتائج التي تتحقق من خلاله، وذلك هو مقياس العمل الصالح. فليست القضية قضية حجم العمل وكميته، بل هي قضية روح العمل ونوعيته. فإن الله قد يتقبل العمل القليل من عبده المؤمن، إذا كان منبعثاً من إخلاصٍ قلبيّ وعبوديّة مخلصة، ويرفض العمل الكثير إذا كان أساسه الرياء والمباهاة والإضرار بالآخرين. وهذا هو الذي جعل مسجد قبا، موضع التقدير والاحترام والرعاية من الله ورسوله، لأنه مسجد أسس على التقوى من أوّل يوم، لأن الذين شيّدوه، لم يفكروا فيه إلاّ من خلال الشعور بالحاجة إلى وجود مكانٍ يُعبَد الله فيه، بعيداً عن أيّ طموحٍ شخصي، أو فائدةٍ عائليّةٍ، أو مصلحة ماديّة، أمّا المسجد الآخر، وهو مسجد الضرار، فقد كان يمثّل ردّ الفعل الذاتي للامتياز الذي حقّقه أصحاب مسجد قبا، من صلاة الرسول فيه واجتماع المسلمين عليه، واعتباره قاعدة للإسلام في منطقته. وبذلك كان الهدف هو الحصول على امتيازات مماثلةٍ من وحي الأنانية العشائرية أو الشخصية، ليحطّموا الموقع الذي حصل عليه أولئك، وليحصلوا على موقع أكبر وأرباح أكثر، ولذلك واجههم الله والرسول بطريقةٍ حاسمةٍ، على خلاف الأهداف التي استهدفوها، وذلك بامتناع النبي عن الصلاة فيه من جهةٍ، وتهديمه وإحراقه من جهةٍ أخرى، وما يستتبع ذلك من كشفٍ لنواياهم السيّئة وأفكارهم الخبيثة، وفضحهم على أكثر من مستوى بين المسلمين.

* * *

الموقف تجاه من يتستر بأعمال الخير

وهذا هو الذي ينبغي للمسلمين أن يستوحوه في تقييم الأشخاص والجماعات التي تقوم بأعمال خيريّة من بناء المساجد والمدارس والمياتم ونحو ذلك، لتكون القيمة للشخصية من الداخل، لا للعمل من الخارج، لئلا يصعد إلى الدرجة العليا في المجتمعات الإسلامية، بعض الأشخاص الذين لا يعيشون طهر الفكرة التي تمثلها المؤسسات، فيستغلون ذلك في سبيل الإساءة إلى الأهداف الكبرى للإسلام، باسم الجانب الشكلي من مؤسسات الإسلام، عندما يحصلون على ما يريدونه لأشخاصهم أو لارتباطاتهم المشبوهة أو الشرّيرة من خلال ذلك.

إن هذا الاتجاه في فهم القيمة الحقيقية للعمل الصالح ولفكرة المؤسسات، يمنع الطامحين غير المخلصين من اللعب على الناس في حاضرهم ومستقبلهم باسم العمل الخيري في شكله ومظهره الساذج، لأن الناس سوف تواجه المسألة من موقع دراسة الشخصية ومعرفة النتائج السلبية أو الإيجابية للعمل قبل الحكم له أو عليه. وقد نستطيع الدخول في التفاصيل بطريقة أكثر تفصيلاً من خلال تفسير الآيات.

* * *

دوافع مسجد ضرار

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا} من حيث الدوافع التي تكمن وراء بناء المسجد، في الاضرار بالمسلمين الآخرين الذي بنوا مسجد قبا، أو في الإضرار بالمسلمين بشكل أشمل من ذلك، لما يريدونه من إيقاع المشاكل فيما بينهم {وَكُفْراً} بالله ورسوله، في ما يمثله هذا العمل من أداةٍ شيطانية للوصول إلى بعض النتائج التي تخدم الكفر في نهاية الأمر، كما ورد في بعض الروايات، أنهم كانوا ينتظرون أبا عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبيّ محمداً(ص) من المدينة، وأمرهم أن يستعدوا للقتال معه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيجعلوا لكل فريق منهم مسجداً يتعصبون له ضد المسجد الآخر، ليتحوّل ذلك إلى نوعٍ من الحاجز النفسي الذي يفصل المسلمين عن بعضهم البعض، وبذلك تحصل الفرقة بين المسلمين من الموقع الذي أريد لهم أن يجتمعوا فيه، وهو المكان الذي حرّره الله من كل خصوصيّةٍ للشخص وللعائلة وللفئة، فلا يريده ملكاً لأحد، بل يبقى ملكاً لله لمنفعة المسلمين جميعاً، ليحصلوا فيه على أجواء العبادة الخاشعة الخالصة، وليلتقوا فيه من أجل التداول في مشاكلهم وقضاياهم في حالة السلم والحرب، ولتفتح لهم من خلاله أبواب الحياة بكل سعتها، من قاعدة الطهارة الروحية الخالية من كل قذارات العصبية الجاهلية، فأراد هؤلاء أن يعيدوا الإنسان إلى سجن المؤسسة العائلية، ليهدّموا أساس الفكرة التي تنطلق منها الوحدة، فيحوّلوها إلى قاعدة للفتنة، فيتحول المسجد إلى هيكل تقليديّ، تُعبد فيه العشيرة والأشخاص، بدلاً من الله. {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} فيكون محل رصد ورقابة، ويتحول إلى موقع متقدم، ومعقل لكل الجماعات التي تكيد للإسلام والمسلمين حرباً لله ورسوله، لتستطيع التحرك من موقعٍ إسلامي عباديّ يلتقي فيه الكافرون المقنّعون باسم الصلاة ليتآمروا وليفتنوا المسلمين الساذجين عن دينهم من خلال أجواء الدين. وسيحاولون التأكيد على إخلاصهم بمختلف وسائل الإقناع عندما يجدون علامات الاستفهام تحاصرهم في عيون المسلمين وأفكارهم ومشاعرهم {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} من خلال ما يمثله الحلف بالله من إيحاءٍ بالصدق والإيمان، وتأكيد على عمق الالتزام وطهارة الدوافع ونظافة الأفكار، ولكن ذلك لا يجديهم شيئاً، فما هي قيمة شهادتهم لأنفسهم أمام شهادة الله عليهم الذي يعلم السرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصدور {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ما يدّعون ويحلفون، لأن الله اطلع على سرّهم فرأى كيف تحرّكوا من موقع الكفر لا من موقع الإيمان، ومن قاعدة الانحراف لا من قاعدة الاستقامة. ولهذا فإن محاولتهم إقناع النبي محمد(ص) بالصلاة في هذا المسجد يعني منحهم الشرعيّة في ذلك كله، ليصلوا إلى أهدافهم من أقرب طريق. وفي ضوء هذا، كان الأمر الإِلهيّ للنبي حاسماً بالرفض القاطع لهم وللمسجد ولكل ما يمثلون، من أجل حماية المسيرة في شكلها ومضمونها وفي امتدادها في الحياة على خط الاستقامة التي لا تسمح لأحدٍ باللعب، ولا تساعد مرحلةً على الانحراف.

* * *

عدم الاعتراف بشرعية المسجد

{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} في صلاةٍ أو في اجتماع، أو في أيّ نشاط آخر يوحي بالرضا والتأييد، لأن القيادة لا يمكن أن تدعم الوجود المنحرف، بل يجب عليها العمل على القضاء عليه، وتوجيه الأمة كلها إلى هذا الاتجاه، في عملية توعيةٍ فكريةٍ من جهة، وقدوةٍ عمليّةٍ من جهةٍ أخرى، ليتحوّل الدعم والإخلاص إلى الوجود المستقيم الخالص لله في كل شيء، وهذا ما يفرض الإصرار على القيام في مسجد قبا وأمثاله من مساجد الله الخالصة.

* * *

المساجد تؤسس على التقوى

{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لأنه هو الذي يحقّق للصلاة غاياتها، ويركّز للدين قواعده على أساس الحق، ويبني للمسلمين علاقاتهم على أساس التقوى، ويدفع الحياة إلى أن تتحرر من عبوديّتها للشيطان، ليبقى لها الخط الذي تتحرك فيه من خلال عبوديّتها لله، في حركة الإنسان في حرّيته وعبوديّته.

وقد خاض المفسرون في الحديث عن المقصود بهذا المسجد، بين من قال بأنه مسجد رسول الله الذي بنيَ على التقوى من أول يوم في المدينة، وبين من قال بأنه مسجد قبا، وهذا ما تؤيده أحاديث أهل البيت، في ما روي عن الإمام جعفر الصادق(ع) وربّما يؤيّد هذا ما ورد في أسباب النزول، في ما توحي به القصة من المقابلة بين المسجدين، مسجد قبا ومسجد الضرار، باعتبار أن الثاني هو ردّ فعل للأوّل. وقد ذهب البعض إلى أن المقصود به كل مسجد أسّس على التقوى من أوّل يومٍ تعميره، واستدل بالتنكير على ذلك. ولكن يمكن المصير إلى ذلك من خلال الإيحاء، لا من خلال مدلول الآية، لأنها واردة في الحديث عن موضوع يختص بموقف من مواقف النبي(ص) هناك، فإذا أردنا الاستيحاء منه، فقد نفهم أن للمسلمين أن يواجهوا المسألة في الحالات المماثلة، من المنطلق الذي واجه به النبي(ص) الحادثة التي عاش فيها، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بسبب ما يمثله المسجد من ينبوع للطهارة، وما توحي به الصلاة من طهارة الفكر والقلب والشعور، وما ينطلق به الإيمان بالله، من سموٍ في انفتاح الإنسان على طهر الروح في علاقته بالله، بعيداً عن كل الآفاق الضيّقة والمواقع القذرة والأجواء العفِنة التي تثقل الروح بالعصبيّة، والفكر بالجاهلية، والحياة بالرجس والخبث والقذارة، في ما يريد الكثيرون أن يعيشوه من الاتجار بالإيمان للوصول إلى أرباحٍ مادّيةٍ خسيسةٍ، من هؤلاء الذين يبغضهم الله ولا يحبّهم، لأنه ـ سبحانه ـ يريد للإنسان أن يقف بين يديه في صلاته من موقع الإخلاص والطهارة التي يحبها ويحب من يتحرك في مواقعها ويسبح في أمواجها {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الذين يعملون للطهارة الروحية على مستوى الفرد والمجتمع والحياة كلها، في الطريق إلى الله في رحابه الفسيحة الشاملة.

* * *

الموقف الواعي والموقف المزاجي

وهنا يتساءل القرآن، لتأكيد القاعدة التي تفرض الموقف الإيجابي أو السلبي في الحياة، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين الموقف الذي يرتكز على أساس الوعي الكامل لمسألة الإيمان في ما يمثّله من مفهوم وعقيدةٍ وخطٍّ واضحٍ يتّصل بتقوى الله، في عمليّة مراقبةٍ ومحاسبةٍ وحركةٍ واعيةٍ قويّةٍ تستهدف رضا الله في الإقدام على الفعل أو الترك، وبين الموقف الذي لا يرتكز على أساس ثابتٍ لخضوعه للحالات المزاجيّة الطارئة والأطماع الشخصية والأفكار القلقة التي تدفع الإنسان إلى تلبية النوازع الذاتيّة المعقّدة. ففي الموقف الأوّل، هناك رضوان الله الذي يسبغه الله على عباده المؤمنين الواعين، في وعي العقيدة والعمل الثابتين في حالات الاهتزاز، وفي الموقف الثاني، هناك الانهيار الكبير للشخصية، لفقدانهم الثوابت الفكرية والروحية التي تمنع السقوط في الحضيض.

* * *

بنيان التقوى وبنيان الشك

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي من أسس فكره على قاعدة التقوى في حسابات المفاهيم المحدّدة الواضحة، وأطلق إرادته وفق قاعدة الارتباط برضوان الله، لتكون متصلةً بإرادة الله، في خضوعٍ وإيمانٍ {خيٌرٌ أم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي من أسس فكره ووجوده على حافة الوادي المهتز في حركة الانهيارات المتساقطة من أعلى {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} حيث السقوط المميت الذي لا يستقر معه الساقطون على قرارٍ. وتلك هي النهاية التي ينتهي إليها أولئك الذين لا يفتحون عيونهم للنتائج من خلال حركة الطريق، ولا يفتحون قلوبهم للهدى من خلال خطّ السير، وإذا أغفل الإنسان ذلك كله، فماذا هناك إلا الضلال، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرد والعصيان، لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم، بعد أن فتح الله لهم أبواب الهداية على مصاريعها، فتركوها وساروا في طريق الضلال.

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} على أساس من الاهتزاز في الفكر والموقف {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يثير الشك ويقود إلى التزلزل، فيطبع كل مشاعرها ونبضاتها بطابعه، حتى يتحوّل إلى ما يشبه الخصوصيات الذاتية التي لا تزول إلا أن تزول الذات نفسها، فتبقى ما بقيت الذات {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وتتلاشى وتموت، فيتلاشى الشك بزوال قاعدته وموضعه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في ما يمنح من رضوانه، وفي ما يمنع من غفرانه.

وتلك هي القصة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في كل مواقفه في الحياة، لينطلق الموقف من القاعدة الثابتة في العقيدة والشعور والإرادة، ليتحرك الفرع الأخضر من الجذور الضاربة في أعماق الأرض المتحركة بالخصب والحياة، فلا حركة إلا من فكرة، ولا فكرة إلا من قاعدة. وكلما اقترب الإنسان من الله، كلما كانت حساباته دقيقةً في كل شيء، لأنه الأساس في كل خيرٍ وحقّ وثبات، ولا فرق في ذلك بين حالةٍ فكريةٍ أو سياسيّةٍ أو اجتماعية أو غير ذلك مما تعارف الناس أن يدفعوا حياتهم نحوه.

ــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:5، ص:94ـ95.