تفسير القرآن
التوبة / من الآية 111 إلى الآية 112

 من الآية 111 الى الآية 112
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(111ـ112).

معاني المفردات

{أَوْفَى بِعَهْدِهِ}: أكثر إتماماً له ومحافظة عليه.

{السَّائِحُونَ}: الذين يسيحون في الأرض، أي يسافرون وينتقلون. وقيل: الصائمون.

* * *

شراء الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم

كيف يواجه المؤمنون الموقف مع الله، في ما يملكونه من نفسٍ ومال؟ وهل للجنّة ثمنٌ عند الله، أو أن المسألة تنتهي بطريقةٍ مجانيّة؟ وما هو الثمن، وكيف تتم عملية المقايضة؟ هذه أسئلةٌ تتوالى في الفكر، وتجيب عنها الآيتان.

* * *

المؤمن بائع والله يشتري

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} فهناك عملية بيع وشراء مع الله، فالمؤمن هو البائع الذي باع نفسه وماله لله، والله هو المشتري الذي جعل الجنة عوضاً عن ذلك. وإذا كان الله يملك الإنسان في ماله ونفسه، فكيف نتصور مسألة البيع هذه؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن الله أراد الإيحاء للإنسان بأنه يترك له الحرّية في ما يتصرف به من ماله ونفسه، ليحدّد هو طبيعة تصرفاته فيهما. ولمن يكون البيع، هل هو للمالك الأصلي الحقيقي، أو هو للمالكين الطارئين الذين لا يملكون شيئاً من نفسه وماله؟ وفي هذا الجو، يتمثل إيمان الإنسان، في مدلوله العميق، بيعاً للمال والنفس، لله تعالى، وهذا ترجمة لمعنى العبودية الحقة لله تعالى، هذا المعنى الذي يؤكد معنى المملوكية المطلقة لله، حيث لا يملك العبد، في جنب الله، حرية التصرف في ماله ونفسه وكل ما تحت يديه في غير المجال الذي أراده الله منه، وهو خط الجهاد، وفي المقابل، فإن العبد سيفوز بالجنة لقاء العبد ما يدفعه ثمناً لها. {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ويجاهدون بالمال والروح {فَيَقْتُلُونَ} أعداء الله، {وَيُقْتَلُونَ} بأيديهم في معركة الكفر والإيمان.

* * *

تشريع الجهاد ثابت في كل الرسالات

{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ثابتاً لا يمكن التراجع عنه أو التردّد فيه {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} فليست القضية وقفاً على أهل دينٍ بعينه، أو جماعةٍ بعينها، أو مرحلة زمنيّة محدودةٍ، بل هي شاملة لكل الأديان والجماعات والأزمنة، فقد أنزل الله ذلك على موسى في التوراة، وعلى عيسى في الإنجيل، وعلى محمد في القرآن، لتتحرك خطة الجهاد على مراحل يتصل بعضها ببعض، ويقَوِّي بعضها بعضاً، ما يوحي بأن الجهاد هو شريعة الله في كل العصور وبرنامج الرسل في كل مراحل التاريخ. فالله يريد القوّة للحق الذي أنزله، ولا قوة بدون جهادٍ، ولا جهاد بدون استعدادٍ للعطاء والتضحية. وبهذا نستطيع أن نعرف خطأ الفكرة التي تقول إن الجهاد فريضةٌ إسلامية في التشريع الإسلامي الذي انطلق في رسالة محمد(ص)، لنخلص إلى الفكرة التي ترى فيه الفريضة الدينية في جميع الرسالات، فلا بد للمؤمن من أن يقدّم نفسه وماله لله، من أجل إعلاء كلمته، بالدعوة إلى دينه، والعمل في سبيله، والجهاد من أجل إقامته على أساسٍ ثابتٍ متين في كل أنحاء الأرض.

* * *

المتاجرة مع الله رابحة

{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} عندما يعاهد عبده على الوفاء.

{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} لأنه التجارة التي لا خسارة فيها، بل هو الربح كله والغنم كله، وأيّ ربح أعظم من ربح المصير في الآخرة، وأيّ غنيمةٍ أعظم من الجنة، وأيّ بيع أعظم من أن يبيع الإنسان نفسه لله؟! {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يربح الإنسان فيه نفسه ليجد في النهاية أنه يملك نفسه التي بذلها في سبيل الله، كما يملك عوضها وهو الجنة.

* * *

صفات المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله

ولكن من هم هؤلاء الذين باعوا أنفسهم لله، وما هي صفاتهم؟

{التَّائِبُونَ} الذين صدقوا الله التوبة بالندم والإخلاص والإصرار على الثبات وعدم العودة عنها إلى أيّ شيء يسخط الله {الْعَابِدُونَ} الذين عاشوا عبوديتهم لله في أجواء العبادة الخالصة {الْحَامِدُونَ} الذي يحمدون الله على ما أولاهم من فضله ونعمه اعترافاً بآلائه {السَّائِحُونَ} الذين لا يتجمدون في مواقعهم التي نشأوا فيها لتبقى آفاقهم ضيّقةً في حدودهم المعينة، بل ينطلقون في رحاب الأرض، في آفاق الله، ليحصلوا على العلم من ينابيعه الأصيلة، وينفتحوا على الحياة في مجالاتها الرحبة، ويعيشوا مع الله في آفاقه الواسعة، في سياحةٍ مستمرة تحمل معنى التجدّد والسموّ والانفتاح على أكثر من تجربة جديدة واسعة {الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ} حيث يعيشون العبودية لله، ركوعاً يجسد الخضوع له في كل شيء، وسجوداً يمثل الانسحاق أمام إرادته في كل مجال، {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} في ما يثيره الأمر بالمعروف من حمل مسؤولية الحياة من أجل إقامة الحق على ما يوحيه المعروف من خط الحق، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} في ما يعنيه النهي عن المنكر من محاولةٍ جادّةٍ لحماية الحياة والإنسان من كل انحرافٍ وتدميرٍ وتخريب، في قيم الفرد والجماعة، في أجواء السياسة والفكر والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} الذين يقفون حيث يريد الله أن يقفوا، ويتحركون حيث يريد الله منهم الحركة، فلا يتجاوزونها إلى غيرها، لأنهم يخافون عقاب الله ويرجون ثوابه، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين تنتظرهم البشارة بالجنة والرضوان من الله، من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح وتواصيهم بالحق وتواصيهم بالصبر.