من الآية 113 الى الآية 114
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ* وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}(113ـ114).
* * *
معاني المفردات
{لأَوَّاهٌ}: الأوّاه من التأوّه، وهو التوجّع والتحزّن. وهنا: بمعنى كثير الدعاء والبكاء.
{حَلِيمٌ}: صبورٌ على الأذى، صفوحٌ عن الذنب.
* * *
مناسبة النزول
ذكر المفسرون وجوهاً عديدة في هذا المجال، فقد روى بعضهم عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي(ص) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي(ص): أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وجعل النبي(ص) يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة، فقال أبو طالب آخر ما كلمهم هو: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي(ص): لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله(ص): {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ}[1] [القصص:56].
ولكن للإنسان أن يلاحظ على هذه الرواية، فيرسم علامة الاستفهام: كيف لم يتحدث النبي مع عمه وكان يعيش معه المعاناة اليومية التي كان يعانيها من قومه في دعوته إياهم إلى التوحيد، وإذا كان يتحدث معه فيما سبق فلم ينفع ذلك معه، فما فائدة الكلمة التي تنطلق عند حشرجة الموت دون وعي أو دون قناعة؟ ثم ما معنى تأثير كلام هذين الرجلين عليه إذا كان مقتنعاً، وكيف لا يستسلم لكلام ابن أخيه وهو يعيش الحبّ له؟ ثم ماذا يخاف، يخاف من الناس وهو يودّع الحياة؟ ثم كيف يحاج النبي به بالكلمة التي لا تصدر عن قناعة، إنها علامات استفهام توحي لنا بأن الرواية لا تبعث على الثقة بالصدق.
ثانياً: إن دراسة تاريخ أبي طالب ومعاناته في نصرة النبي(ص) ووعيه الكبير وعقله المفتوح وقوة شخصيته، تدل دلالة واضحة على أنه كان مسلماً، لأنه لا يمكن له أن لا ينفتح على الحقيقة من خلال الرسول(ص). وربما كانت بعض مظاهره التي لا توحي بذلك محاولةً منه لإعطاء دوره صفة الحياد ليستطيع أن ينصر النبي من موقع قوي، كما ورد في بعض الروايات.
ثالثاً: إن الآيتين نزلتا بعد وفاة أبي طالب، فكيف تكونان واردتين في هذا الجوّ الذي تتحدث عنه الرواية؟
وهناك قول أنه أتى قبر أمه وبكى عنده واستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت الآيتان، ولكن هذا لا يتناسب مع وعي النبي للقاعدة التي يرتكز عليها الاستغفار في الإسلام الذي دعا الناس إليه، فإذا كانت أمه قد ماتت على الشرك كما يقول هؤلاء، فكيف يستغفر لها؟
وهناك قول: إن جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا المشركين كما استغفر إبراهيم لأبيه، ولكن الآية تتحدث عن النبي والمؤمنين، وهذا ما لم تتحدث عنه الرواية.
إننا نحسب أن المسألة كانت اجتهاداً اتخذ لنفسه صفة الرواية، وأن الآية لا توحي إلا بأن هناك حالة قد تعيش في أفكار المسلمين آنذاك من خلال اجتهادهم في موضوع إبراهيم، فجاءت الآيتان لتثيرا الموضوع في موقعه الصحيح، والله العالم.
* * *
ما كان للنبي أن يستغفر للمشركين
قد يكون من بديهيّات حركة الإيمان في شخصية المؤمن، أن تلتقي منطقة الشعور عنده بمنطقة الفكر في أجوائه الداخلية، فيكون الموقف العاطفي انعكاساً للموقف الفكري والعقيديّ، لأن ذلك هو معنى جدّية الخطّ العقيديّ في مواقع القرار، فليس الفكر في أجواء العقيدة والإيمان مجرّد معادلةٍ عقليّة في زوايا الفكر التجديدي، بل هو جزءٌ من موقف داخلي يتفاعل مع الحياة ويحدّد موقفه من مفرداتها على هذا الأساس، وبذلك يكون أيّ رفض لأيّ خطّ هنا، سبباً في رفض أيّ تعاطفٍ عمليّ مع القوى التي تمثله وتؤيّده وتقوّيه. والأمر بالعكس في حالة القبول والموافقة، وهذا هو ما أرادت الآيتان معالجته في موقف النبي والذين آمنوا من المشركين، مروراً بموقف إبراهيم من أبيه، فقد بدا أنّ المشركين من أقرباء النبيّ، أو من غيرهم، أو من أقرباء المؤمنين وأصدقائهم كانوا يأملون أو يفكرون بأن العلاقة العاطفية التي تفرضها القرابة أو الصداقة، بشكل طبيعيّ، يمكن أن تكون أساساً لتحقيق بعض الامتيازات على مستوى الواقع، وربما لم تكن القضية بهذا الحجم منهم، بل قد تكون خاطرةً في أذهان بعض المؤمنين، في حالةٍ عاطفيّة انفعالية، أنّ من الممكن أن يستغفروا لهؤلاء الأقرباء والأصدقاء، أو يطلبوا من النبيّ أن يستغفر لهم، كما كان الأمر مطروحاً في الساحة في مسألة المنافقين، وربما رأوا في استغفار إبراهيم لأبيه الكافر، أساساً لهذا الموقف منهم أو لهذا الطلب من النبيّ، فلم يجدوا فيه أيّة غرابةٍ أو أيّ انحرافٍ عن خط الإيمان الذي يحملونه.
* * *
رفض الاستغفار لأولي القربى من المشركين
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى} لأن الاستغفار في حالة الشرك يعني اعتبار الشرك حالةً هامشيةً في انحراف الإنسان، تماماً كما هي حالات المعصية الطارئة العاديّة القابلة للغفران، ما يعني استهانةً بمسألة التوحيد الإلهي ودوره في حركة العقيدة لدى الإنسان وتأثيره على مسيرته في كل جانب، ومدلوله الروحي في الإحساس العميق بعظمة الله وجلالة قدره، بينما يُعتبر الشرك ظلماً عظيماً، لا يمكن أن يغفره الله في الوقت الذي يمكن أن يغفر فيه أيّة معصيةٍ أخرى، كما ورد في أكثر من آية. ولذلك فلا يمكن للنبي أن يقوم بذلك، مهما كانت الحالة العاطفية ضاغطةً على الذات، ولا يمكن أن ينتظر الآخرون منه أو من المؤمنين ممارسة ذلك، لأن قصة التوحيد والشرك هي قصة الموقفين المتضادّين اللذين يمثل كل واحد منهما قاعدة للهدى في جانب التوحيد، وقاعدةً للضلال في جانب الشرك، فلا يمكن أن يلتقيا في الحياة في موقع واحد، ولا يمكن أن يعيشا في الذات في قلبٍ واحد، وهكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمنين من المشركين {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} من خلال ما عرفوه من هذا الارتباط بين الشرك والمصير الأسود الذي ينتظر المشركين في الآخرة في نار جهنم، ما يعني ابتعادهم عن رحمة الله ورضوانه، الذي يفرض على المؤمنين الابتعاد عن أجواء هؤلاء.
* * *
استغفار إبراهيم لأبيه
ولكن كيف نفسر موقف النبي إبراهيم(ع)، الذي حدثنا القرآن عنه في آية أخرى عندما قال لأبيه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] هل هو استسلامٌ للعاطفة على حساب العقيدة، وهل يمكن أن نقبل هذا التفسير في حالة إبراهيم الذي لا يمثّل مجرد إنسان صاحب عقيدةٍ، بل هو ـ إلى جانب ذلك ـ نبيٌّ صاحب رسالة يريد أن يغيّر الإنسان في الحياة على أساس انتصار الفكر والعقيدة في ذاته على الحس والعاطفة في شعوره؟ إن القرآن يجيب عن هذا السؤال.
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} فقد كان يأمل أن يستقيم أبوه على الصراط ويرجع إلى الله، لأنه كان يعتبر حالة الانحراف التي يمر بها حالةً طارئةً لا تعقيد فيها، ولا عمق لها، ولا امتداد لها في شخصيته، فيمكن لها أن تزول، وينطلق إبراهيم في استغفاره له من هذا الموقع الذي يطلب فيه الهداية له، لينفتح قلبه، ويصفو فكره، وترقّ مشاعره، وتشرق حياته، فيلتقي بالله من أقرب طريق. ربما كان يفكر في هذا الاتجاه، من موقع الرغبة في أن تربح العقيدة إنساناً جديداً، ومن موقع العاطفة التي تتحرك في خدمة الرسالة من أجل أن توحي لهؤلاء الذين تتعاطف معهم، بأنّ المشاعر تحتضنهم بالحبّ والرحمة، ليحتضنوا الحقيقة في مشاعرهم من أجل أن تحتضنهم في أفكارهم. وبقي هذا الأمل ينمو في روحه وضميره وعقله، حتى استنفد كل تجربة وأسلوب وشعورٍ، ولكنه تضاءل وتضاءل حتى سقط في التراب وانكشفت له الحقيقة، إن هذا الإنسان ليس مجرد حالةٍ طارئةٍ، بل هو عقدةٌ مستعصيةٌ مستحكمةٌ. إنه الكفر المتجسد في وحشية الفكر في الإنسان، إنه عدو الله في فكره وفي عمله، إنه يخلص للحجارة التي يصنعها أصناماً يتعبد لها، ولا يرضى بأن يتعبد لله الذي صنع له وجوده، إنه لا يرضى بأن يفكر ويتأمل ويحاور ليكتشف خطأ فكره وضلال طريقه. إنه يدافع عن انحرافه بعناده وإصراره، لأنه يخاف من التغيير. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} لأن الله أقرب إليه من كل إنسان، لأنه الخالق الذي أمدّه بالحياة، ومن خلال كل هذه القوانين التي كان منها قانون ولادته من أبيه، فهو الأول والآخر في وجوده وحركة حياته. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} يعيش التأوّه أمام الله في أجواء الخشوع والخضوع له، {حَلِيمٌ } في قلبه المفتوح وروحه الكبيرة، يعفو عند المقدرة، ويفتح قلبه للناس.
ــــــــــــــــ
(1) الميزان، ج:9، ص:420 ـ 421.
تفسير القرآن