تفسير القرآن
التوبة / من الآية 117 إلى الآية 118

 من الآية 117 الى الآية 118
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(117ـ118).

* * *

معاني المفردات

{يَزِيغُ}: الزيغ: ميل القلب عن الحق.

{خُلِّفُواْ}: تخلفوا عن السير مع رسول الله(ص).

{رَحُبَتْ}: اتسعت.

* * *

توبة الله على النبي وقومه

وتستمر مسيرة المسلمين، ويتقدمها النبيّ(ص) في موقع القيادة، وتواكبه الطليعة المؤمنة من المهاجرين والأنصار، وتشتد التحديات، ويتخلّف البعض من المسلمين عن السير مع القافلة المجاهدة، وتنطلق الرحمة الإلهيّة لتوحي للسائرين بالرحمة والرضوان على أساس مواقع الثبات في المعركة، ثم تشمل هؤلاء المتخلفين بالعفو والمغفرة، بعد إعلانهم الندم على ما قاموا به. وهكذا تلتقي التوبة، التي لا تتحرك من مواقع المعصية لدى العبد، بل من مواقع الإحسان والجهاد، لتأخذ معنى الرحمة في ما تمثله التوبة من رحمةٍ في النتائج، مع التوبة التي تعيش في ساحة الذنب الذي يتحرك فيه الإنسان في خطّ تراجعيّ سريع، ليجتمع للفريقين ـ في توبة الله عليهم ـ اللطف الإلهيّ الذي يغمرهم بالرحمة والرضوان، ليلتقوا في نهاية المطاف أمام الله في سعادة الطاعة وحقيقة العبودية.

{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حيث كانوا يعانون أقسى حالات الشدّة والجهد في ما كان يعانيه الجيش الإسلامي المتوجّه إلى غزوة تبوك من الحر والجوع والعطش والعري والركب. قال الرواة: كان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً، يركب الرجل ساعة ثم ينزل، فيركب صاحبه، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد، وكان الواحد منهم يلوك التمرة، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه، أمّا الماء، فقد كانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه، ويبلّون به ألسنتهم. ولعلّ هذا الإيحاء بالتوبة على أساس ما تعنيه من رعاية الله للتائب ورحمته، هو التعبير القرآني للرضا والمحبة واللطف الإلهي للنبي وللمؤمنين معه.

* * *

معنى توبة الله على النبي(ص)

وربما كان ذكر اسم النبي(ص) مع المهاجرين والأنصار من أجل التأكيد على الحضور النبويّ في المجتمع الإسلامي، باعتباره القيادة التي تحرّك المجتمع وتقوده وتتحمل مسؤوليته، وتحصل على امتيازات النتائج الإيجابية له. وربما كان هذا أسلوباً قرآنياً في أكثر الموارد التي يتحدث فيها عن المؤمنين في مواقعهم المرضية عند الله {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} ممن بلغ منهم الجهد والتعب مبلغاً عظيماً حتى بلغوا مرحلة الانهيار وفكروا في الانسحاب والتراجع. ولكن الله ثبّتهم على الإيمان {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} في ما أرادوا أن يمارسوه من انحرافٍ عن خط السير واستسلام لنقطة الضعف، فشملهم برحمته ولطفه، ولم يجعل لذلك تأثيراً على موقفهم منه، لأن الله يعرف كيف يؤدّي الجهد بالإنسان إلى السقوط أمام التجربة الصعبة، فرأى لهم العذر في ما همّوا به، وإن لم يفعلوا معصيةً، ولكنهم عاشوا جوّها الذي يلتقي بها من حيث الروحيّة، وإن ابتعدوا عنها من حيث المضمون {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } يشملهم برأفته، ويرعاهم برحمته، لأنه اطلع على قلوبهم، فرأى فيها الإيمان والإخلاص في جميع المجالات.

* * *

مقاطعة المتخلفين الثلاثة

{وَعَلَى الثّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} وتأخروا عن السير مع النبي1، فبقوا في المدينة، ورجع النبي من غزوته وجاؤوا يعتذرون، فهم لم يتأخروا عنه تمرّداً وعناداً ونفاقاً وعصياناً، ولكنه أراد أن يلقنهم درساً، ويعلِّم الآخرين شيئاً منه، فأمر المؤمنين بمقاطعتهم، حتى جاءت نساؤهم، فأمرهن النبي باعتزالهم، فصاروا في عزلةٍ خانقةٍ، حتى أنهم كانوا يأتونهم بالطعام والماء فيضعونه أمامهم من دون تحيّةٍ ولا كلام. ومضت عليهم خمسون ليلة في هذا الجوّ الخانق، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} فلم يجدوا ملجأً يلجأون إليه، لأن القضية ليست قضية ضيق المكان، بل هي قضية ضيق الجو النفسي الداخلي الذي يوحي إليهم بالطرد من المجتمع، والبعد عن رحمة الله، وبذلك يعيش الإنسان حالة السجن في الأفق الرحب {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} فأحسوا بما يشبه الاختناق {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} فهو الرب الرحيم الذي يسع عباده بالرحمة، فيغفر لهم أخطاءهم ويعفو عن ذنوبهم، فلا مرجع إلا إلى رحابه، ولا ملجأ إلا في كنف رحمته، فمهما هرب العبد منه، فإنه يرجع إليه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بعدما اطلع على صدق موقفهم وصحة إيمانهم {لِيَتُوبُواْ} ويرجعوا إليه ويستقيموا في طريقه ويتحركوا في هداه ويسيروا مع المسيرة الإلهية، بكل ما تفرضه من مسؤوليات، وما تواجهه من مشاكل {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الذي يقود عباده إلى التوبة ويتقبلها منهم ويشملهم برحمته.

وهكذا عاد هؤلاء الثلاثة، وهم كعب بن مالك الشاعر، ومروان بن الربيع، وهلال بن أميّة الواقفي، ودخلوا في المجتمع الإسلامي من جديد، ليكونوا أعضاءً عاملين صالحين، بعيداً عن كل ما يثقل حركتهم، ويضعف موقفهم، ويبعدهم عن تحمّل مسؤولياتهم في حركة الإسلام من جديد. وتلك هي قصة القافلة في مسيرتها الطويلة، التي قد يتساقط فيها الكثيرون، ولكن الله يفسح لهم المجال للرجوع إليه من جديد، ليأخذوا بأسباب القوّة بعد الوقوع في وهدة الضعف، وينطلقوا في اتجاه المسؤولية بعد أن ابتعدوا عنها. وهكذا يقود الله الناس إلى الاستقامة ـ بعد الانحراف ـ من أقرب طريق، وتلك هي قصة التوبة في تصحيح مسار الإنسان.