من الآية 128 الى الآية 129
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (128ـ129).
* * *
معاني المفردات
{عَزِيزٌ}: شديد، والعزيز في صفات الله تعالى، معناه المنيع القادر الذي لا يتعذر عليه فعل ما يريده[1].
{عَنِتُّمْ}: العنت: المشقة.
{تَوَلَّوْاْ}: أعرضوا.
{حَسْبِيَ اللَّهُ}: أحسبه أي كفاه.
* * *
القرآن يتحدث عن صفات الرسول
وتلك هي صورة النبي الإنسان في مشاعره الحلوة الرقيقة التي تنساب بالحنان والعاطفة على الناس من حوله، فيضمّ المؤمنين إليه في حرصٍ كبيرٍ وخوفٍ شديدٍ من أن يمسّهم سوء، أو يعرض لهم مكروهٌ، أو يصيبهم جهدٌ أو مشقةٌ وعذابٌ، في جوٍّ حميمٍ من الرأفة والرحمة التي تغمر القلوب وتملأ النفوس غبطةً وسروراً، وذلك هو الذي يفسح المجال للسائلين أن يجدوا لديه القلب المفتوح الذي ينفتح لكل علامة استفهام تدور في أفكارهم، ليجيب عنها بكل محبةٍ وعمقٍ وانفتاحٍ، وهو الذي يتيح الفرصة للضالّين أن يلتمسوا الهدى عنده، فلا يتعقّدون من أسلوب ولا يتشنّجون من نظرةٍ، بل يواجهون ـ بدلاً من ذلك ـ النظرة الحنونة، والابتسامة المشرقة، والكلمة الطيبة، واللفتة الحلوة، فيقتربون إليه بالجوّ الحميم، قبل أن يقتربوا بالفكرة العميقة الموحية، بل يكون هذا الجوّ هو المدخل الذي يتيح للفكرة أن تلج إلى القلب وتتحرك في العقل، فتتحول إلى حركة إيمان في النفس. وهذا هو ما يحتاجه الداعية الذي يتحمل مسؤولية الدعوة إلى الله، فإن عليه أن يعيش الخلق العظيم قبل أن يعيش الفكرة، أو وهو يعيش الفكرة على الأقل، فيحب الناس من عمق العاطفة ويحرص عليهم، ويرحمهم ويرأف بهم ولا يتعقّد منهم، ليسهل عليه أمر الوصول إلى قلوبهم وعقولهم من أقرب طريق. وربما ساهمت ابتسامةٌ حلوةٌ وكلمة طيّبة من داعية في انفتاح إنسان ما على الهداية، كما قد تساهم حالةٌ تشنّجيةٌ وكلمةٌ قاسيةٌ في انغلاق الإنسان وابتعاده عن الخط المستقيم، تبعاً للعقدة التي تنحلّ بكلمة وابتسامةٍ، أو تتعقّد بكلمةٍ وقساوةٍ ونظرة حقدٍ.
* * *
لقد جاءكم رسول من أنفسكم
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} فهو ليس من فصيلةٍ غير فصيلة البشر، ولذا فإنه يعيش أحاسيسكم ومشاعركم وأفكاركم في روحيّةٍ من الانفتاح والامتداد والشمول، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، إنه يتألم لأيّة حالةٍ من الجهد والتعب والمشقة في ما قد تقاسونه في حياتكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في ما تستقبلون من قضية المصير في الدنيا والآخرة، تماماً كحرص الأم على أولادها عندما تعمل على أن تبعدهم عن كل أذىً ومكروه، فلا يريد لكم الضلال، لأن فيه الهلاك، ولا يحبّ لكم الضياع، لأن في ذلك الخسران كله، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فهو الذي يجسّد الرحمة في أقواله وأفعاله ونظراته وعلاقاته، وفي كل خطوات رسالته، حتى كان هو الرحمة للعالمين، كما كانت رسالته كذلك.
* * *
لا يضر الرسالة إعراض الناس عنها
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عن الاستماع إلى دعوتك، والسير في خط رسالتك، بالرغم من كل الأجواء الحميمة الحلوة التي تحيط بها في عمق المشاعر وروعة الأحاسيس، فلا تتعقد من ذلك، ولا تتراجع عن دعوتك في شعورٍ بالخذلان والسقوط، بل انطلق في طريقك انطلاقة الرسول الواثق بربّه، المؤمن برسالته، الذي يرى أن من واجبه أداء الرسالة بحسب ما يستطيع، من دون أن يكون مسؤولاً عن النتائج السلبيّة ـ إن حدثت ـ لأنها لا تكون ناشئةً عن فعل تقصير، بل عن ظروفٍ وأوضاعٍ وأسبابٍ خارجةٍ عن إرادته، وتحرّك بقوّة، بعيداً عن كل مشاعر الضعف، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فهو ربّ القوّة وخالقها، وهو الذي يكفي الإنسان من كل عدوٍّ ومن كل شر، ويوحي إليه بالثقة المطلقة، وبذلك يكون التوكل عليه حركةً داخليّةً وخارجيةً في خطّ الشعور بالأمن والطمأنينة بسلامة الاتجاه وفاعليته وروحيّته {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ومن يتوكل على الله فهو حسبه في كل شيء.
وتلك هي نقطة القوّة لدى المؤمنين عندما يتحركون في خط الرسالة، فلا يشعرون بالضعف إذا خذلهم الناس، بل يجدون الله معهم في كل موقف، فيحسون معه بالقوة التي يستريحون إليها وينطلقون معها ويستمرون من خلالها على الخط المستقيم.
* * *
خاتمة سورة التوبة
وهكذا تنتهي هذه السورة المباركة، بإعلان الموقف الحاسم الذي تقفه الدعوة من الجاحدين والمعرضين، وذلك بالامتداد في الخط الرسالي، بعيداً عن كل النتائج المضادّة، تماماً كما كان الأمر في بداية السورة، فكما كان الموقف هو البراءة من المشركين، في ما أوحى به الله ورسوله، فهذا هو الموقف من المعرضين عن نداء الرسول، بالإعراض عنهم والالتزام بالله في ما يريد وفي ما لا يريد، ويبقى للداعية هذا الجوّ المنفتح الذي يزداد إشراقاً وتوهّجاً وأملاً وإيماناً كلما تقدمت به الطريق، وواجهته التحدّيات، واستجاب له المستجيبون، أو أعرض عنه المعرضون، فإذا توقف في بعض المحطّات، فلكي يتعرف على التجربة الناجحة هنا، أو الفاشلة هناك، ليأخذ منها العبرة أو يستفيد منها الدرس، ثم يمضي في الطريق غير عابىء بالصعوبات، لأن مهمته ـ في الأساس ـ هي أن يواكب المسيرة ليبلغ مداها، على مستوى المراحل، ولينقلها من جيل إلى جيل، من أجل أن تتكامل في فكرها وتتوازن في خطواتها، وتصل إلى غاياتها الكبرى في تحويل الحياة كلها إلى حركةٍ إسلاميةٍ قويةٍ منفتحةٍ، ليكون الدِّين كله لله في الفكر والعمل والحركة المنطلقة أبداً مع إشراقة الشمس في كل مكان.
ــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج :5، ص:109
تفسير القرآن