من الآية 3 الى الآية 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأرضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ* إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}(3ـ4).
* * *
معاني المفردات
{اسْتَوَى}: الاستواء هنا بمعنى الهيمنة والسيطرة على مقاليد الأمور.
{بِالْقِسْطِ}: بالعدل.
{حَمِيمٍ}: الحميم: الماء الشديد الحرارة.
* * *
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده
وتنطلق الآيات لتؤكد التصور القرآني للإيمان بالله في الهيمنة المطلقة له على كل شيء من خلال خلقه لكل شيء، فكل الأشياء مخلوقةٌ له، ومن خلال تدبيره لكل أمر فكل أمر خاضعٌ لتدبيره وتقديره، وملكه لكل شيءٍ، فلا يملك أحدٌ معه شيئاً، في أيّ شأن من شؤون الحياة والمصير. وبذلك كان هو الأولى بالعبادة، والأحقّ بالربوبيّة، والمرجع في كل شيءٍ في الدنيا والآخرة، فهو المبدىء والمعيد، وهو المثيب والمعاقب.
* * *
قدرة الله في خلقه
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} في عظمة الخلق وروعة التدبير ودقّة النظام، وذلك من خلال حكمته الخفيّة التي انطلق فيها الوجود في هذه القطعة المعينة من الزمن، في ما تمثله من مقياس الزمن الذي نعيشه. وهو الذي لا يحتاج في تحقيق إرادته إلى زمنٍ معيّنٍ طويل، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. وذلك هو سر الله الذي لا يعرف أحد كنهه، ولا يبلغ أحد مداه.
* * *
الاستواء على العرش
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ما يوحي به الاستواء بمعناه المادي من كنايةٍ تدل على الهيمنة والسيطرة المطلقتين على مقاليد الأمور في قاعدتها الممتدّة لما توحي به كلمة العرش من مركز السلطة، أو رمزها المعنويّ الكبير.
* * *
تدبير شؤون الكون
{يُدَبِّرُ الأمْرَ} بعلمه وقدرته ورحمته في تنظيم الكون على أساس ما يصلحه في قوانينه الكونيّة وسننه الطبيعيّة التي أودعها في حركة الوجود وتوجيه الإنسان في طاقاته الذاتية نحو صلاح حياته، في علاقته بالحياة في نطاق حركة المجتمع من حوله.
* * *
لا شفيع إلاّ بإذنه
{مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} من خلال ما توحي به الشفاعة من التدخل في القضايا وتغييرها وتوجيهها إلى مسارٍ مغايرٍ لطبيعة الأشياء من موقع القوّة، فلا مجال لأيّ شخص أن يتدخل في مصير أحدٍ إلا من خلال إرادة الله وإذنه، لأنه المالك لكل شيء في الدنيا والآخرة، وبذلك فلا يجوز الارتباط بأيّة جهةٍ على قاعدة الشفاعة الذاتية، إلا من خلال الارتباط به، في ما يأذن به من أمر الشفاعة، بحيث يكون ذلك مستمداً من الله سبحانه.
{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} لا ما تتخذونه من أصنام، أو تخضعون له من أشخاص مما صنعته أيديكم أو صاغته أوهامكم مما تعبدونه من دون الله بغير حجّةٍ ولا سلطانٍ {فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالخضوع له والخشوع أمام جلاله، والطاعة له في ما يأمر به وينهى عنه والسير في كل خطوات الحياة من مواقع رضاه {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} من خلال الفكر العميق الذي يفتح لكم آفاق الحقيقة التي تكتشفونها من قاعدة الأسس التي يتحرك فيها الفكر فيربط بين الأشياء وأسبابها والنتائج ومقدماتها، {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فستعودون إلى رحاب قدسه وجلاله، هناك في يوم القيامة، حيث يرجع الناس كلهم إليه ليواجهوا حساب المسؤولية أمامه {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} لا ريب فيه، في ما وعد به عباده من الحياة بعد الموت {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ليحقق للحياة حكمتها التي تخرج حركة الإنسان من مواقع العبث واللاّمعنى، فتنطلق من قاعدة الحكمة الإلهية التي تجعل للوجود غايةً عظيمةً في مجالات الجزاء {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} فلا يظلم أحدٌ شيئاً ولا يُنقص من عمله أيّ شيء. {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} من خلال ما يواجهونه من شدّة العقوبة، {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} بعد أن أقام عليهم الحجّة، وألزمهم الدليل والبرهان.
تفسير القرآن