من الآية 5 الى الآية 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}(5ـ6).
* * *
معاني المفردات
{جَعَلَ}: يقول الطبرسي في مجمع البيان: الجعل إيجاد ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها[1].
{وَقَدَّرَهُ}: التقدير: تبيّن كميّة الشيء.
{يُفَصِّلُ}: يشرح ويبين.
* * *
مظاهر نعم الله في الحياة
ويطوف القرآن بالإنسان في ملكوت الله، ليتعرف على مواقع عظمته في خلقه، وعلى مظاهر نعمه في الحياة، فتتجسد العظمة في عقله، لتتحول إلى إيمانٍ في قلبه، وتتمثل النعمة في عينيه، لتتحرك وعياً في روحه.
* * *
الضياء والنور
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً} لماذا هذا الاختلاف في التعبير عن المعنى الواحد بكلمتي الضياء والنور؟ ربما يقال إن الحكمة في ذلك هي التفنّن اللفظي، وربما يستوحي البعض من كلمة الضوء الجانب الذاتي من النور، بينما تشمل كلمة النور، النور المستمد من الشمس. ومهما كان الأمر، فإن هذا الحديث عن هذين الكوكبين هو من ناحية مظهرهما وتأثيرهما في الكون، من دون التأكيد على طبيعتهما، من أجل إثارة الانتباه إليهما من خلال علاقتهما بالجانب البسيط من حياة الإنسان في ما يتطلع إليه من الإشراق الدافىء أو الملتهب الذي تضفيه الشمس على الكون، فتمنحه الحياة المشرقة التي تطرد الظلام ليحل محله النهار الذي يحقق للإنسان الحركة القويّة الدافئة، أو الإشراق البارد الهادىء الذي يثيره القمر في أجواء الليل، فيعطيه السحر الممزوج بإشراقة الكون هناك، من خلال ما يمكن للإنسان أن يستوحيه أو يعالجه.
* * *
تقدير القمر منازل
{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} فقد نظم الله للقمر منازله ودرجاته التي تحكم قوانينه بطريقةٍ ثابتةٍ لا تتغيّر ولا تتبدل {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وذلك من خلال ما نستفيد منه من تعيين الشهور في أوائلها وأواخرها تبعاً لطلوع القمر وغيابه {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} لأنه ـ سبحانه ـ أقام الحياة على قاعدةٍ ممتدةٍ عميقةٍ مرتبطة بالسنن الكونية التي أودعها في نظامه. وهذا ما تثيره كلمة «الحق» في ما تعنيه من السرّ الكامن في داخل الأشياء الذي يجعل لكل ظاهرةٍ من الظواهر حكمةً في حركة الوجود وفي سرّه، ما يبعد الأمور عن العبثيّة في الخلق. {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} من خلال هذا التمايز الذي صنعه فيما بينها، ليدرك الإنسان النتائج من خلال التفاصيل الكونية، ومن خلال الشرح المتحرّك المرن الذي ينطلق من خلال الحقيقة، التي يمكن للإنسان اكتشاف السرّ ـ من خلالها ـ إذا حدّق في الظاهرة طويلاً.
* * *
اختلاف الليل والنهار
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ويشعرون بقيمة المعرفة من خلال دراسة الوسائل التي تصل بالناس إلى أسرار خلق الله عندما تكشف أمامهم دقّة النظام الكوني، فيعيشون ـ في داخل أنفسهم ـ الشعور بعظمة الله، فيتعبّدون له بإخلاص، ويتقونه بانضباط. وبذلك يريد الإسلام للتقوى أن ترتكز على أساس متينٍ ثابتٍ من العلم والوعي والإيمان، ولا يريدها مجرّد حالة انفعاليّةٍ سريعةٍ تزول مع أيّة مشكلة صغيرةٍ ذاتيةٍ. ولهذا كان التدقيق يحقّق للإنسان بعض الوعي للحكمة الإلهية التي تكمن من خلف الظاهرة، كما أن رصد القوانين الطبيعيّة والسنن الكونية الإِلهية التي تتحرك في هذه المخلوقات الجامدة والحيّة في السموات والأرض، يوحي بعظمة القوّة الخالقة وحكمة الإله الحكيم. وفي ضوء ذلك، نستوحي انطلاق المعرفة العلمية من التدبر والتأمّل في الموجودات والظواهر بعمق، لتكون هي الأساس للتقوى وللعبادة وللالتزام في الإسلام، خلافاً للمقولة التي تجعل من مسألة الإيمان مسألة غير عقلانية وغير علميّة، وقد سبق الحديث عن بعض ذلك في تفسير آيةٍ مماثلةٍ لهذه الآية في سورة البقرة، فراجع.
ــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:5، ص:117.
تفسير القرآن