من الآية 11 الى الآية 14
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ* ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (11ـ14).
* * *
معاني المفردات
{فَنَذَرُ}: فندع.
{يَعْمَهُونَ}: العمه: التردّد في الأمر من التحيّر.
{الضُّرُّ}: المشقة والبلاء.
{الْقُرُونَ}: جمع قرن، وهم القوم المقترنون في زمن واحد.
{بِالْبَيِّنَاتِ}: البينات، جمع بينة، والبيّنة: الدلالة الواضحة.
* * *
ثم جعلناكم خلائف من بعدهم
وخلق الله الإنسان من عجلٍ، فهو يستعجل الخير إذا أراده، حتى ليكاد يغفل عن الأسباب الطبيعيّة التي يحتاجها في وجوده، كما يستعجل الشرّ عندما يتطلّبه في حالة اليأس أو الألم عندما يتمنى الموت، أو في حالة التحدي عندما يواجه الأنبياء الذين ينذرونه عذاب الله، لأنه يعيش القضايا من موقع الانفعال السريع، لا من موقع الدراسة الواعية للنتائج الإيجابية والسلبيّة لما يريده أو لما لا يريده. ولكن الله سبحانه لا يستجيب لهذه التمنيات، حتى في الحالات التي يستحق فيها الناس إنزال الشرّ بهم، لأنه يقدّر الأمور على أساس الحكمة المرتبطة بالجانب الشامل للحياة وللإنسان، ويلاحظ في ذلك مصلحة الناس من موقع رحمته.
وبذلك كان جانب الخير، هو الجانب الذي يلتقي مع إرادة الله للحياة، التي أقامها على أساس الرحمة، فهو يفيض عليهم منه من غير طلب، ويمدّهم به من غير استحقاق، ليدفعهم إلى مواقع الشكر والإيمان به، ويقودهم إلى التراجع عمّا هم فيه من غفلةٍ وتمرّدٍ وبلاءٍ، وغير ذلك مما يحطم الحياة، ويهلك الإنسان، ويزيد في مشاكله. فهذا ما لا يستجيب الله إلى ما يريده الإنسان منه، لأنه لا يتناسب في كثير من الحالات مع الحكمة والمصلحة، لأنّه ينطلق لدى الإنسان من مواقع الانفعال السريع الذي قد لا يلتقي مع مصلحته، كما أن الله يريد أن يمدّ للإنسان مدّاً ليقيم عليه الحجة، فلا يترك له مجالاً للعذر، أو يثير لديه الدوافع الخيّرة، ليظهر كل ما عنده من نوازع وأفكار وآفاق نفسيّة، لتكون الحياة ساحةً تلتقي عليها التجربة الإنسانية بأوسع مداهاه وأقوى دوافعها، فلا يبقى هناك مجالٌ لتجربةٍ جديدة يحاول أن يحتج بها الإنسان في تقصيره أو في انحرافه. وإذا كان الإنسان يستعجل في مواجهة حالات التمرّد لأنه يريد أن يستجيب لنداء الانفعال في نفسه، ويخاف فوات الفرصة عنده، فإن الله لا يعجل ولا يخاف الفوت، لأنه يُدرك كل شيء ولا يفوته شيء، لأن الحياة خاضعةٌ له في مستقبلها، كما هي خاضعة له في ماضيها وحاضرها.
* * *
الله لا يستجيب لعجلة الإنسان
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} فيستجيب لهم في ما ينطلقون به من انفعالٍ، ويعاملهم بما يريدون {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وأنفذ أمر الله بهم، لأن الله لا يعجزه شيء في ما يريد، ولكن الله لا يفعل ذلك، بل يتركهم لأنفسهم ولضلالتهم ليتحمّلوا مسؤولية عملهم، وليواجهوا الموقف بطريقةٍ حاسمةٍ لا تدع لديهم مجالاً للتبرير ولا للعذر {فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} ولا يؤمنون باليوم الآخر بل يستسلمون للحياة الدنيا، ويستريحون إليها، ويتمردون على كل قيم الخير والحق والعدل، وندعهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} على الحق وأهله {يَعْمَهُونَ} أي يتحيرون أشدّ الحيرة، لأنهم مهما أوحوا لأنفسهم بمنطق العذر، فإنهم لا يشعرون بالأساس الوثيق الذي يرتكزون عليه، بل يجدون ـ بدلاً من ذلك ـ الاهتزاز في القناعات والمشاعر والمواقف، وهكذا يعانون عذاب الحيرة والقلق، قبل أن يعانوا عذاب الله في الآخرة.
* * *
اللجوء إلى الله عند الضرّ
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا} وتلك هي سيرة الإنسان الذي لا يعرف الله إلاَّ في حالات الشدّة، فيلجأ إليه في خشوع وخضوعٍ، في كل حالاته، في إلحاحٍ مستمر لا يترك أيَّة فرصةٍ، فهو يدعو في حالات القيام والقعود والاضطجاع، فيستجيب الله دعاءه ليفسح له المجال للتراجع عن غيّه من موقع إحساسه بالحاجة إلى الله لكشف الضرّ عنه، وليدفعه إلى الامتداد في هذا الاتجاه القريب إليه.. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} وأحسّ بالطمأنينة للحالة الجديدة التي ارتفع فيها عنه الشعور بالضغط تجاه الخطر، نسي كل شيء ورجع إلى طغيانه وتمرّده، و{مَرَّ} في طريق الغفلة والنسيان والشهوات {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} ولم يحصل على نتائج دعائه، ولم يلتفت إلى المقارنة بين حالته الأولى المليئة بالآلام والمشاكل، وحالته الثانية البعيدة عن كل سوءٍ. {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فخيّل إليهم أن الحياة ممدودة لشهواتهم وطغيانهم، فليس هناك من سبيل عليهم، وليس هناك من حدٍّ لحريتهم في الكيد والمكر والعصيان، فزيّن لهم الشيطان الموقف، وأبعدهم ـ من خلال ذلك ـ عن وعي الخطأ في ما يفكرون، والضلال في ما يعملون، فأسرفوا في هذا الخط من دون وعيٍ، وساروا بعيداً في خط الشيطان فهلكوا وأهلكوا، تماماً كما هلك من كان قبلهم، بعد أن مدّ الله لهم فلم يأخذهم بالعذاب بسرعة {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والعصيان {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} التي توضح لهم الحقيقة {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بذلك كله، فكان جزاؤهم الهلاك في الدنيا بألوان العذاب {كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} على جريمتهم في حق الله والناس.
* * *
الخلافة في الأرض
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرضِ مِن بَعْدِهِم} ومنحناكم كل الفرص للهداية وللاستقامة وللسير في طريق الله، لأنَ فشل البشرية في تجربةٍ، لا يعني فشل كل التجارب، ولهذا أراد الله لكم أن تواجهوا التجربة في ما أراده لكم من حركة العقل والروح والحياة، لتصلوا من خلالها إلى النتائج الإيجابية الحاسمة، ولتدركوا أن الله استخلفكم في الأرض من بعدهم من أجل أن تعمروا الأرض على أساس كلمته وشريعته، وأنَّكم الآن تقفون أمام التجربة الحاسمة الصعبة التي منحكم الله إياها وخاطبكم من قاعدة الألوهية المهيمنة عليكم {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فكيف تستجيبون للنداء، وكيف تواجهون الموقف على أساس المصير المحتوم؟!
تفسير القرآن