من الآية 21 الى الآية 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آياتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ* هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاَْنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأرضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(21ـ25).
* * *
معاني المفردات
{مَّكْرٌ}: حيلة.
{يُسَيِّرُكُمْ}: يمكنكم من المسير.
{الْفُلْكِ}: السفينة.
{يَبْغُونَ}: البغي: الظلم.
{زُخْرُفَهَا}: الزخرف: كمال حسن الشيء.
{وَازَّيَّنَتْ}: تزيّنت.
{حَصِيدًا}: الحصد هو قطع الزرع، وهنا الحصاد في غير أوانه على سبيل الإفساد.
* * *
إنما بغي الناس على أنفسهم
ويعود الحديث إلى هذه الظاهرة الإنسانيّة التي تمثل الإنسان الذي يأخذه الخوف من البلاء، فيضرع إلى الله في حال الشدّة، ويعاهده على الإخلاص له بعد الخلاص منها، فإذا أنجاه الله منها عاد إلى ما كان عليه، وربما ازداد تمرّداً من خلال ما يستوحيه من قدرته على اللعب بأسلوب الخديعة والاحتيال. وتنطلق هذه الآيات لتوحي لهذا الإنسان بأنه لا يضر الله في ما يفعل، وإنما يضر نفسه، لأن الله قد تقتضي حكمته إمهال الإنسان في هذه الدنيا، ولكن الدنيا لا تمثل كل شيءٍ في حسابات المصير، فهناك الآخرة التي هي ساحة الاستقرار والخلود، حيث ينتظره العذاب الأليم جزاء مكره وطغيانه.
* * *
مكر الناس بعد رحمة الله
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آياتِنَا} فيبادرون إلى استعمال الحيلة في مواجهة آيات الله ووحيه بالأساليب الملتوية التي تعطل دورها في الحياة وتعمل على إثارة الشك والريب فيها، لئلا ينطلق الناس معها في عملية إيمان ووعيٍ.
{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} في ما يدبّر لهم من نتائج خفيّة تعطل مكرهم وترجعه إليهم ليذوقوا وبال أمرهم عذاباً وخزياً في الدنيا والآخرة {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} فيحصون عليكم كل شيءٍ تُضمرونه أو تظهرونه، ليكون الحساب دقيقاً يوم القيامة، فتكون المفاجأة التي تثير فيكم كل ألوان اليأس والقنوط عندما تشعرون بأنكم لا تملكون هروباً ولا خلاصاً.
* * *
السير في البر والبحر
ثم تزداد الآيات في تفصيل الفكرة وتوضيح الصورة في بعض مفرداتها. {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وهو الذي يهيىء لكم القدرة على السير بأمان واطمئنان في مناكب البرّ ورحابه، وأمواج البحر وآفاقه، حيث تتحرك كل القوانين المودعة في الأرض لتحمي مسيرتكم وتدفعها إلى شاطىء الأمان.
{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} واستسلموا لهذا الجوّ الهادىء الرضيّ الذي يوحي بالطمأنينة والاسترخاء. وعاد الأسلوب في الخطاب إلى الغيبة، ليرجع إلى الحديث عن الظاهرة في جوّها الشامل الذي يتعدى المخاطبين إلى جميع الناس {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وتلبّد الجوّ واكفهرت السماء {وَجَآءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} فلم يجدوا مجالاً للتخلص من هذه الأمواج العاتية التي ترغي وتزبد وتحاصرهم من جميع الجهات {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} في نوبةٍ من نوبات الإيمان الطارىء الذي يطفو على سطح النفس ليستنجد به في ما يعتقد أنه يقرّبه إلى الله، فينجيه من الموت المحتّم، {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الذين يشكرونك بالإيمان والطاعة في مستقبل الأيّام. واستجاب الله هذا الدعاء، ليعرّفهم بأن الله رحيم بعباده، وأنه يعطيهم الفرصة للتراجع، ليقوّي فيهم دوافع الإيمان وعناصر الالتزام. وهدأ الموج، وعاد البحر هادئاً ساكناً، وجرت الريح من جديد، تماماً كما هو النسيم العليل الهادىء في انطلاقة الصباح، وغرقوا في سباتٍ عميق، وبدأت اليقظة تزحف إلى عيونهم بعد ذلك، ولكن الظلام الروحي عاد من جديد إلى الأعماق، ليعيدهم إلى أجواء الشك والريبة والتمرّد.
* * *
البغي بعد النجاة
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيكفرون ويظلمون ويتمردون ويتحركون في الخط المنحرف، بعيداً عن الله وعن صراطه المستقيم، ويخيّل إليهم أنهم استطاعوا أن يخدعوا الله بأساليبهم هذه، فتمتلىء نفوسهم شعوراً بالزهو والخيلاء. ولكن الله يواجههم بالحقيقة الواضحة، فليست القصة في حسابات النجاح والفشل هي قصة اللحظة الحاضرة التي قد تحمل للإنسان بعض الانفعالات اللذيذة السريعة، ولكنها قصة المصير في نهايات الشوط، عندما يواجه الإنسان ظلام النهاية الذي يطبق على روحه، فيخنق فيها كل حياة. وماذا هناك؟ إن البغي الذي يمارسونه على غير طريق الحق، لا يمثِّل القوّة التي توحي لهم بالعظمة والكبرياء، بل يمثِّل العقدة المرضية التي تفتك بكل مواقع الخير في الداخل، فتحركهم إلى مواقع الهلاك والدمار {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} لأنكم تعرّضونها لعذاب الله في الآخرة، لأن هذه الفرصة السانحة ليست هي الفرصة الأخيرة لتعتبروا أنفسكم بأنكم ربحتم الشوط كله، فهناك فرصٌ أخرى للنجاح، ستفقدونها بأجمعها في لحظات الحساب الحاسمة {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هذا الذي تنعمون به الآن، تماماً كما هو حالكم قبل نزول البلاء، {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وليست القضية مجرد إعلامٍ وإخبارٍ، ولكنها المسؤولية المباشرة التي يواجه من خلالها الإنسان قضية المصير على مستوى النار التي وقودها الناس والحجارة.
وماذا تمثّل هذه الحياة اللاهية العابثة المليئة بالزخارف، التي يعيش فيها الإنسان معصية الله على أكثر من صعيد؟ إن الله يريد أن يبصّر العباد بحقائقها ليلتفتوا إليها من موقع الفكر والتأمل لا من موقع الانبهار والالتذاذ.
* * *
تشبيه الحياة الدنيا بالماء
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرضِ} إنها ـ تماماً ـ كالمطر الذي ينهمر من السماء على الأرض، فينفذ إلى أعماقها، فيتفاعل مع البذور المنتشرة فيها، فيختلط بها في عمليّة نموّ وتفاعل، فإذا به يتمثل نباتاً {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من حب الزرع وثمر الشجر {وَالاَْنْعَامُ} كالحشائش وغيرها، ويمتد هذا النبات حتى تزدهر به الأرض، {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأرضُ زُخْرُفَهَا} في مظهرها الرائع وحسنها العجيب {وَازَّيَّنَتْ} بحلتها الخضراء الملوّنة القشيبة {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} من خلال مظاهر الحياة المتنوعة في حركتها، وقوّة سيطرتهم على أوضاعها وشؤونها الماديّة مما يوحي إليهم بالامتداد بعيداً في الاطمئنان، والإخلاد إليها، والاستسلام إلى ما يشبه الخلود فيها، ولكنها الغفلة المطبقة التي تطبق على فكرهم وروحهم وحياتهم، هي التي تساهم في إثارة أجواء التخييل والوهم الكبير، فتبعدهم عن العمق الذي يعمّق لهم الفهم الواقعي للحياة، ويعرّفهم طبيعة الفناء الكامنة في داخل كل ظاهرةٍ من ظواهرها، وكل ذرّة من ذرات المادة فيها.
وتستمر الغفلة حتى تأتي الصدمة، التي تصدمهم بالواقع المفاجىء، وتعيدهم إلى حقيقتهم الفانية، وذلك ما أشار إليه الله في قوله ـ سبحانه ـ {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} يتطاير في الهواء فلا يبقى هناك أيّ شيء في الأرض، فلا خضرة، ولا جمال، ولا حياة، وإنما هو الموت المتمثل في هذا الجفاف الذي يأكل كل حيويّةٍ في هذ الجو المعشب المليء بالخضرة والحياة، فيتحول إلى أوراق يابسةٍ لا تملك إلاّ أن تتحول إلى تراب خفيف تعبث به الريح الخفيفة والعاتية، فيتطاير هنا وهناك، ويذهب مع الريح في أجواء الفراغ والضياع، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ} كأن لم يكن هناك شيء قد أقام وامتد وازدهر واخضرَّ، فقد زال كل شيء ولم يبق هناك حتى الذكرى، وذلك هو المثل الحيّ الذي يوحي بالفكرة التي تثير في النفس المعنى الحيّ، الذي يربط الإنسان بواقع الحياة والموت والدنيا والآخرة، ليعرف موقع الحياة من مصيره، فهي حركةٌ في رحلة الوجود إلى الموت، فلا مجال للاستسلام إليها في أوهام الخلود الخادع، من خلال الأمل الكاذب. {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} ونوضحها ونشرحها بالأسلوب الذي يفتح القلب على الحقيقة من أقرب طريق، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويتأملون، فيقارنون بين الأمور الحسية والأمور المعنوية، ليكتشفوا وجه التشابه بينها، لينتقلوا منها إلى الفكرة الثابتة الحاسمة التي تحكم الجوّ كله، والمسيرة كلها.
* * *
الدعوة إلى دار السلام
وماذا بعد ذلك.. هل يموت كل شيءٍ في الإنسان، وهل هذه الحياة دعوةٌ إلى الموت، فلا تثير في داخله أيّة رغبةٍ في حركة الحياة في داخله، لتتحول المسألة عندها إلى حالةٍ انفعال وإحباطٍ أمام مظاهر الفناء، فيموت قبل أن يموت، لأنه يفقد الامتداد في الهدف؟ إن الآية التالية تجيب عن ذلك: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} وهي الجنة التي وعد الله المتقين بها، حيث يعيش فيها الإنسان هناك سلام الفكر والروح والشعور والحياة، مع الله ومع النفس ومع الناس الذين يجلسون هناك إخواناً على سرر متقابلين، فلا يحملون في صدورهم غلاًّ لأحدٍ. وليست هذه الدعوة مجرد فكرةٍ تخطر في البال وتثير في النفس انفعالات الذات، ولكنها الدعوة التي يمسك الله فيها بيد الإنسان ليهديه إلى الطريق المستقيم الذي يوصله إلى تلك الجنة، بما يوفره له من أدوات الفكر والعمل، وأجواء الروح والإيمان، فقد خلق الله الإنسان، وخلق معه الفطرة التي تتحرك معه بالهداية، حيث يشمله الله بألطافه {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وليست هذه الهداية شيئاً يشعر معه الإنسان بفقدان الإرادة على الاختيار، بل هي التي توصله إلى الجوّ من خلال الروحيّة الهادئة التي تقوده إلى الخط المستقيم، في ما توحي إليه بالهداية المرتكزة على أساس الإرادة الواعية المنفتحة المنطلقة نحو إشراقة الإيمان في رحاب النور. وبذلك يستجيب الإنسان للدعوة الإلهية، فيلتقي بالجنة من أقرب طريق.
تفسير القرآن