من الآية 26 الى الآية 30
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ* فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ* هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَولاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (26ـ30).
معاني المفردات
{وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ}: لا يلحق وجوههم.
{قَتَرٌ}: القتر: الدخان أو الغبار الأسود.
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: أي يلحقهم هوان وذلّ.
{عَاصِمٍ}: حافظ ومانع.
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ}: كأنّما أُلبست وجوههم.
{فَزَيَّلْنَا}: زيّل: ميّز وفرّق.
{تَبْلُواْ}: يقال: بلوته أي اختبرته. {تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أي تعرف حقيقة ما عملت.
* * *
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت
وتنتهي الدنيا، ويموت أصحاب الحسنات وأصحاب السيّئات، ولا يبقى منهم هناك أيُّ شيء، فقد مات كل شيء فيهم هناك، وبدأت حياة جديدة يواجهون فيها نتائج المسؤوليّة، فها هم يبعثون من جديد، وفي أيديهم صحائف أعمالهم التي تحدد لكل واحدٍ منهم مصيره الجسدي والروحي تبعاً لعمله في الدنيا، وها هم يلتقون جميعاً في ساحة المحشر، أمام الحقيقة الواضحة التي لا تخفي أيّ شيء. وتتقطع العلاقات المرتكزة على الشرك والكفر والضلال، ولا يبقى هناك إلا الله، الحق الذي لا شك فيه ولا ارتياب.
* * *
ثواب المحسنين
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى} فلكلّ واحدٍ منهم ثواب عمله، حسنةٌ بحسنةٍ {وَزِيَادَةٌ} فقد جعل الله للحسنة عشر أمثالها، وقد تزيد أضعافاً في بعضها مثل الصدقة والإنفاق في سبيل الله التي ضرب الله لها مثلاً، في {حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة:261] {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي لا يلحق وجوههم ولا يغشاها سوادٌ وظلمة، بل يشرق فيها الصفاء والنور والحيويّة الدافقة بالإيمان {وَلاَ ذِلَّةٌ} لأنهم لم يفعلوا شيئاً يهزم روحهم، أو يضعف موقفهم، أو يثير فيهم الشعور بالذلة والانسحاق، بل إنهم أخذوا بأسباب العزّة والكرامة، من خلال ما فعلوه وقاموا به من طاعة الله وعبادته والسير في طريقه المستقيم، ما جعلهم يواجهون الموقف أمام الله، بقلبٍ مطمئنٍ، ورأسٍ مرفوعٍ، وموقفٍ ثابتٍ، وأملٍ مشرق بالفوز والنجاة، {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في رضوانٍ من الله ورحمةٍ وغفرانٍ.
* * *
جزاء السيئات
{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ} وانطلقوا في حياتهم الدنيا من مواقف الكفر والانحراف ومعصية الله، ليواجهوا في الآخرة نتائجها السيّئة، التي تمثل الصورة القاتمة الذليلة {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} وتلك هي عدالة العقاب في ما توعدهم الله به من عذابه قبل أن يواقعوا الخطيئة، وأقام عليهم به الحجة {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} لأنهم لا يملكون عذراً يعتذرون به، ولا يجدون شفاعةً يلجأون إليها، ولا ملاذاً يلوذون به، فها هم خاشعون من الذلّ، خاضعون أمام المصير المحتوم، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّليْلِ مُظْلِماً} فعلى كل وجهٍ قطعةٌ من الليل الأسود المظلم، الذي يحوّله إلى سوادٍ، أو كأنما تراكمت قطع الليل على كل وجهٍ من وجوههم حتى شكلت طبقاتٍ ملبّدةً من الظلام، وذلك هو سواد الروح والقلب والضمير الذي يتحوّل إلى لونٍ قاتمٍ ينعكس على الوجوه، {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فتلك هي النتيجة المحتومة للتاريخ الأسود الذي تركوه وراء ظهورهم.
* * *
يوم القيامة تنقطع الروابط بين المشركين
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} فلا يتخلف منهم أحد {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} قفوا لا تتحركوا، وليلزم كل واحد منكم ومن شركائكم مكانه، وواجهوا الحقيقة الساحقة، التي تتساقط فيها الآمال أمام تساقط المواقف، فها هم أولاء الذين أشركوهم بعبادة ربهم، وعبدوهم من دونه، لا يعترفون بهم، ولا يملكون لهم نفعاً ولا شفاعةً، {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي قطعنا الروابط بينهم، فلا صلة تربطهم بهم، وها هم يواجهونهم بالتنكر لهم والرفض لعبادتهم، ليتخلصوا من مسؤوليتهم، فينكروا عليهم عبادتهم لهم لئلا يتحملوا مسؤولية شركهم وضلالهم من موقع الإغراء والخديعة والتضليل، في ما كانوا يمارسونه معهم. {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} لأننا لم نأمركم بذلك ليكون عملكم عبادةً لنا من موقع الخضوع والطاعة للأمر الصادر منّا. وربما كان ذلك على سبيل الكناية من جهة عدم استحقاقهم للعبادة حتى لا يواجهوا مسؤولية ذلك أمام الله، {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} فهو الذي يعلم حقيقة الأمر كله، ويعلم خفايا الأعمال، {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} فلم يكن لنا من الأمر شيء مما فعلتموه ومما عبدتم، بل كنا في غفلةٍ عن ذلك.
* * *
الله هو المولى الحق
{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} فهو يوم الامتحان والاختبار الذي تظهر فيه طبيعة الأعمال والمواقف أمام النتائج الإيجابية والسلبيّة {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} فهو وليّهم في كل شيء، فلا مولى غيره، ولا يملك أحدٌ شيئاً معه {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من دعاوى وأباطيل، ووضح الصبح لذي عينين، فلا مجال لأي ظلام أو ضبابٍ يحجب الرؤية. وهذا هو ما ينبغي للإنسان أن يفكر فيه وهو في الدنيا، ليعيش المسؤولية في ما يعمل، فيواجه نتائجها من موقع الوعي والإرادة والإيمان المنفتح على قضايا الحق والمصير.
تفسير القرآن