من الآية 31 الى الآية 36
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاَْبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ* فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ* كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ* قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(31ـ36).
معاني المفردات
{تُصْرَفُونَ}: تعدلون عن الحق.
{تُؤْفَكُونَ}: الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، وتؤفكون: تصرفون عن الحق.
هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟
وتأتي الآيات لتثير علامات الاستفهام أمام هؤلاء المشركين الذين لا ينكرون وجود الله، ولكنهم يشركون بعبادته غيره، ويستغرقون في هذا الاتجاه حتى يسيطر على مشاعرهم وأفكارهم، فينسون الله في غمرة ذلك كله، فإذا هم والملحدون سواء. ومن هنا تأتي هذه الآيات لتنبش أعماقهم، لتستخرج منها الأفكار الكامنة في داخلها، في ما يعتقدونه من أسرار عظمة الله وقدرته، ليوجههم ـ من خلال ذلك ـ إلى حقيقة التوحيد في اعتقاداتهم وأعمالهم وأحاسيسهم وأفكارهم.
* * *
الله هو الرازق والمالك والمدبّر
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرضِ} في ما يهطل من المطر، وفي ما تنبت الأرض من النبات، أو في ما تخرجه من المعادن، أو غير ذلك، {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ} في ما يخلق من أدواتهما، وفي ما يملكه من تحريك طاقاتهما في تحصيل العلوم النظرية والتجريبيّة. {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فيملك أمر الموت والحياة بقدرته التي تتصرف فيهما على أساس الحكمة والعظمة؟
ويختلف المفسرون في التمثيل لخروج الحي من الميت، فيمثل له بعضهم بخروج النبات الحي من الأرض الميتة، ويتعمق بعض آخر فيمثّل له بما يأكله الحيوان ويمر بمعدته وأمعائه وتجري عليه جميع عمليات التحليل، وبالنهاية، تتكون منه خلايا جديدة بدلاً من الخلايا القديمة، أمّا خروج الميت من الحيّ، فقد يمثل له بولادة الميت من الإنسان الحي، كالأم التي يموت ولدها في بطنها، أو موت الخلايا التي يتخلص منها الجسم الحيّ بالتنفس والإفراز.
{وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ} فيدير الكون وينظمه ويدبّره بقدرته التي لا يعجزها شيءٌ، وإن عظم؟ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} لأنهم لا يرون لهذه الأصنام التي يعبدونها مثل هذه القدرة، وبذلك فسيواجهون الجواب الحاسم الذي يرى كل هذه الأشياء ملكاً لله، {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} في ما تفرضه العقيدة بالله من ضوابط للفكر وللعمل، لأنّها في عمقها الفكري الإيماني، توحي للإنسان بالهيمنة المطلقة لله، بحيث يفقد معها الشعور بالاستقلال في أيّ شيء، بل يشعر بدلاً من ذلك بالعجز أمام الله، وبالحاجة إليه في أموره كلها، ما يجعل للتقوى في حياته معنىً يتصل بامتدادها وحيويّتها وحركتها في المبدأ وفي التفاصيل، ويؤكد دورها في تحويل الإنسان من شخصٍ يستغرق في ذاته وفي ما حوله، إلى شخصٍ يعيش في آفاق الله، فيشعر برقابته عليه في كل القضايا والأشياء، ويتحسس حركة المسؤولية في فكره ومشاعره وحياته، في ما يحدّده خط الإيمان من الارتباط العميق بالله. وربما استطاعت التقوى أن تنقذه من هذه الازدواجية بين التوحيد في العقيدة والشرك في العبادة، لأنها تفرّغ داخله من كل شيءٍ غير الله، لتملأه به وحده في ما تثيره من إشراقة الوعي في روحه، وابتعاد الغفلة عن فكره، وبذلك تنكشف الحقيقة التي لا بديل عنها، وتتضح لديه الصورة بتمامها، {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الذي يوحي بالقدرة المطلقة المتمثّلة في خلق السماوات والأرض وإنزال الرزق منهما وخلق السمع والأبصار، وإخراج الميت من الحي، والحيّ من الميّت، فذلك هو الذي يؤكد خصائص الربوبيّة الحقيقية فيه ويبعدها عن غيره، لأن غيره لا يملك شيئاً من ذلك، بل هو العجز المطلق عن كل شيءٍ إلا من خلال إرادة الله.
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} لأنه يمثل الخط الواحد الذي لا التواء فيه ولا انحراف، فلا بديل عنه إلا الضلال والتخبط في متاهات الضياع التي تتشابه فيها المسالك والدروب والآفاق، دون أن تترك أيّة علامة تدلّ على الغاية المبتغاة. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يملك صورة تخيِّل له أنها الحق، بل إنه لا يرتكز على قاعدةٍ ثابتةٍ في ما يفرّق فيه بين الحق والباطل {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي تعدلون عن الحق، وهو التوحيد، إلى غيره، وهو الشرك. {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} بعد أن أقام عليهم الحجة، ولم يجعل هناك عذراً لمعتذر في أيّ شكٍ وشبهة، فانحرفوا من موقع الشهوات والأهواء لا من موقع القناعة المرتكزة على العلم والفكر، ولذلك كان سلوكهم الفكري والعملي فسقاً {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بالله وبرسالاته.
* * *
بدء الخلق وإعادته
ثم تنطلق الآية لتوجه النظر إلى الشركاء بعد أن أثارت في أعماقهم التفكير في أمر الله {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فيبدع الوجود من العدم، ثم يعيده إلى العدم من جديد، لينطلق الوجود في صورةٍ جديدة تحاكي الصورة السابقة بكل ملامحها؟ ويلتفتون إلى واقع هؤلاء الذين جعلوهم شركاء، فيرون قدرتهم المحدودة الناطقة بالعجز، ويعرفون استحالة نسبة ذلك إليهم، لأنهم مخلوقون من العدم كغيرهم، وسيعودون إليه من جديد، ليبعثوا كما يبعث الآخرون، فلا يمكن أن يكونوا هم الذين يعطون الأشياء وجودها في البداية والنهاية، ويعرفون أن الله هو القادر على ذلك كله، ولذلك بادرت الآية إلى الجواب عن السؤال، دون أن تنتظر جوابهم، لأنه من بديهيّات المعرفة، {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وتعدلون عن الحقيقة الواضحة، إلى الباطل؟
وربما يخطر في البال سؤال: كيف يطرح القرآن فكرة إعادة الله للخلق كعقيدةٍ من عقائدهم التي يفرض استسلامهم لها، مع أنهم لا يعتقدون بالمعاد، كما تحدَّث القرآن غير مرَّة؟ وربما كان الجواب عن ذلك: أن هذا الأسلوب القرآني لا يريد استنطاقهم في الجواب من خلال السؤال بشكل فعلي، بل يريد تقرير الحقيقة العقيدية بطريقة إيحائية، للإيحاء بأن أي إنسان يوجه إليه هذا السؤال، فلا بد من أن يجيب بهذا الجواب، لأن الفطرة تفرض عليه ذلك، باعتبار ارتباطها بالحقيقة وارتباط الحقيقة بها من أقرب طريق، وهذا أسلوب درج عليه القرآن في أكثر من موضع.
* * *
الهادي إلى الحق
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} أي اسأل يا محمد هؤلاء المشركين، هل أحد من آلهتكم الذين تجعلونهم شركاء لله وتنسبون إليهم ما تنسبون من القدرات، هل أحد منهم يهديكم إلى الحق؟ لأن من شأن الألوهية هداية مخلوقاتها إلى الحق. بكلام آخر، فإن السؤال هنا ينطلق ليقرّر فكرةً جديدةً، فيناقش مسألة الشرك من هذا الموقع، في نموذج الشريك العاقل الذي يحس ويعي ما حوله، أو في نموذج هذه الأصنام من الجمادات، فإذا كان الشريك لديهم في موقع الإله، فلا بدّ من الحديث عن أبسط خصائص الإله وطبيعة دوره، فهل يمكن أن يتمثل في شخصٍ لا يملك الهداية لنفسه إلاَّ إذا جاءته من قبل الآخرين، أو في شيء لا يقبل الهداية ذاتياً؟ إن ذلك فرضٌ لا معنى له، لأن من أبسط خصائصه أن يعطي للكائنات خطّ هدايتها الذي يوصلها إلى النتائج السليمة على مستوى الحياة، كما يعطيها خطّ الوجود الذي ينقلها من العدم إلى مرحلة الوجود، فإن ذلك يعني الوعي والعقل والحكمة والقدرة والإرادة والغنى المطلق، بينما يمثل العكس الجهل والعبث والعجز والفقر والحاجة إلى غيره.
وبذلك يطرح السؤال نفسه لتقرير الحقيقة العقيديّة، فمن هو الأولى بالعبادة المتمثلة بالاتباع على أساس الطاعة والخضوع؟ فهل هو الذي يهدي الحياة إلى الحق في حركة الكون وفي حركة الإنسان؟
{أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى} فلا يملك الاهتداء إلا إذا هداه غيره، إن كان قابلاً للهداية في نفسه، وذلك في من يملك الحياة والعقل والإِرادة؟ فهل يمكن أن يستوي الأمر بين هذا وهذا؟ {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الجائر الذي لا يرتكز على أساسٍ ثابت بل ينطلق من خلال الأهواء والشهوات، بعيداً عن أيّ منطق للعقل من قريب أو من بعيد.
وإذا كانت الآية في مسألة الإِله، فيمكن للإنسان أن يأخذ منها فكرة القيادة بطريقة الاستيحاء، وذلك بالتأكيد على أن هناك فرقاً في المواقع بين الموقع الذي لا يملك فيه الإنسان عنصر الوعي والهداية التي تؤهله للقيادة، وبين الموقع الذي يملك فيه الإنسان كل عناصر الكفاءة الرسالية التي تجعل منه عنصر خيرٍ للحياة وللناس أجمعين، فلا يمكن للقائد الذي يتبعه الناس أن يكون خالياً من كفاءة القيادة في ما يحتاجه الناس فيه، لأن الاتِّباع يفرض وعي القيادة لمسؤوليتها في حياة الناس، أو في حركة الساحة من حوله.
* * *
الظن لا يغني من الحق شيئاً
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} في ما يعتقدونه من عقائد، أو يعبدونه من آلهةٍ، فلم يرتكزوا على أساس العلم المنطلق من البداهة الفطرية، أو من البرهان العلمي، بل ارتكزوا على أساس الشك والحدس والتخمين. وهو ما توحيه كلمة الظن التي تواجه مسألة العلم، لتشمل كل ما هو غير علمي، مما لا يمكن الاعتماد عليه في العقيدة والعمل، {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} لأنه لا يكشف عن الحقيقة من مواقع الفطرة والوجدان، أو من مواقع الحجة المنتهية إلى الوجدان. وهذا هو الخط الذي يريد الإسلام للإنسان أن يسير عليه في تحصيل القناعة، أو تحقيق الانتماء، فلا يجوز له أن يعتمد على ما لا يجوز الاستناد إليه مما لا يرتكز على حجة ولا ينطلق من قاعدةٍ يقينيّة، بل لا بدّ له من مواجهة الفكرة المتبنَّاة من الإجابة على كل علامة استفهامٍ مطروحةٍ أمامه، بما يطمئن إليه العقل، وتستقر به النفس، ويعذر فيه العقلاء، فإذا لم يحصل ذلك وبقيت الاحتمالات المضادة مفتوحةً عنده، كان الموقف الطبيعي لديه أن يأخذ جانب الحذر ليلاحق الآفاق المتنوعة التي تقف به عند خطّ اليقين. ومن خلال ذلك، نفهم جيّداً كيف يريد الإسلام للإنسان أن يحترم الحقيقة في الحياة، باحترام مسؤولية الفكر لديه، والتأكيد على أدواته وأساليبه في الوصول إلى النتائج الإيجابيّة في العقيدة، لأن ذلك هو الذي يعطي للناس جانب العذر عند الله {إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
تفسير القرآن