تفسير القرآن
يونس / من الآية 37 إلى الآية 44

 من الآية 37 الى الآية 44
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ* وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ* وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ* إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(37ـ44).

* * *

ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله

وهذا حديثٌ عن موقف هؤلاء الذين يحكمون بما لا يعلمون من دون حجّةٍ ولا برهان، في ما واجهوا به الرسول من تحدٍّ وكفران، وما قابلوا به القرآن من افتراءات. وهو حديث عن الأسلوب الذي ينبغي للرسول، ولمن كان سائراً في خط الدعوة، أن يواجه به هذا الموقف السلبيّ المضادّ، وعن الروحيّة التي يعيشها في داخل انفعالاته أمام حالات التحدي، فلا يسمح للمشاعر بالاهتزاز، ولا للموقف بالانفعال، بل يبقى له العقل الهادىء، والأسلوب المتّزن، والموقف الثابت الذي يواجه الهدف بثقةٍ واطمئنان.

* * *

القرآن لا يمكن أن يفتريه بشر

{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ} لأن دراسة آياته في ما تحمل من فكر أو تتميز به من أسلوب، وكذلك دراسة شخصية الرسول في صدقه وعمق أمانته، لا تسمح بهذا الاحتمال، بل إنّ فيه ملامح الصدق التي تدلّ على أنه يمثِّل الحقيقة المعصومة النازلة من الله، فإن مقارنته بالكتب الإِلهية التي جاء بها الرسل السابقون وملاحظة هذا التوافق بينه وبينها، ما يجعله مصدّقاً لما بين يديه منها، يؤكّد ذلك، كما جاء في قوله تعالى {وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} الذي خطط لكل قضايا الحياة ومسؤولياتها، ليكون الإنسان على بصيرة من أمره، في ما يواجهه في مستقبل حياته كلها، {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} لأنه يجيب على كل علامات الاستفهام المضادّة، فلا يبقى مجالٌ للشك أو للريبة بأنه الكتاب الصادق الموحى به من رب العالمين.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتحدى هؤلاء المقتدين بأن يأتوا بدليل واحد على أن هذا القرآن ليس من عند الله، وإنما هو من افتراءات محمد(ص)، ذلك أن محتوى دعواهم يذهب إلى أن هذا القرآن إذا كان من صنع بشر، فلا ريب أنه في متناول الناس الإتيان بمثله، لأنه لن يكون عندها ذلك الكتاب المعجز، وبالتالي فإن عجزهم عن الإتيان بمثله دليل على كذبهم وكذب دعواهم من جهة، ودليل على كونه من الله تعالى من جهة أخرى.

إلا أن هؤلاء الذين لا يحترمون عقولهم، فلا يوجهونها إلى التفكير والبحث عن الحقيقة، ولا يتحملون مسؤوليّة المصير، فيبتعدون بخطواتهم عن السير في الاتجاه الصحيح، فينكرون من دون أساس للإنكار، ويكذّبون من دون حجّة على التكذيب {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} ولم يملكوا حجته، فإن من الطبيعيّ للجاهل أن يتوقف عند حدود جهله، فلا يُثبت ولا ينفي إلاَّ إذا انطلق في البحث إلى نتيجةٍ إيجابيّةٍ أو سلبيّةٍ حاسمة، ولكن كثيرين من الجهّال الذين لا يطيقون البحث، يستعجلون التكذيب ليبرّروا بذلك انحرافهم وابتعادهم عن المسؤوليّة التي يمثلها خط الحق، ثم يتحوّل الأمر عندهم إلى عقدةٍ مرضيّةٍ مستعصية تدفعهم إلى محاربته والاعتداء على رموزه. وقد ورد في حديث الإمام علي(ع): «الناس أعداء ما جهلوا»[1]. وهكذا كذّب هؤلاء بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وتفسيره في ما يشتمل عليه من حقائق وأسرار، ولكنها ليست أوّل بادرة تصدر من المكذبين الجاهلين، بل هي سيرة البشريّة الكافرة التي لم ينطلق كفرها من موقع الحجة والبرهان، بل من موقع العقدة المعادية، {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فأخذهم الله بكفرهم وذنوبهم، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان، فعرّضوها للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، وخذ منها العبرة للآخرين من خلال ما يستقبلون من قضايا العقيدة والعمل.

{وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} من موقع تفكير ورويّةٍ، فيؤدّي به ذلك إلى الإيمان {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} عناداً وجحوداً من دون أساس، بل كل ما هناك أنهم يحافظون على امتيازاتهم الذاتية أو الاجتماعية أو المالية التي يخافون أن يفقدوها من خلال حركة الإيمان {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الذين يفسدون حياة الناس، في ما يقودونهم إليه من انحراف في التصوّر، وغموضٍ في الرؤية، وابتعادٍ عن وعي قضيّة الإيمان، فإن ذلك هو أوّل منطلقات الفساد، لأنه يبدأ فكرةً في الذهن، وعاطفةً في الشعور، وحركةً في الوهم والخيال، فيتحوّل إلى موقفٍ منحرف في السلوك والعلاقات. وبهذا نفهم أن موضوع المفسدين لا يقتصر على الذين يفسدون الحياة بالعمل، بل هم الذين يفسدونها بالتصوّر المنحرف، بالإضافة إلى السلوك الضال.

* * *

مواجهة النبي(ص) لتكذيب الكافرين

والآن كيف يواجه النبيّ الموقف، وما هو الأسلوب الذي يتبعه معهم؟ هل هو أسلوب التشنّج والانفعال، بالمزيد من السباب والشتائم، أو هو أسلوب الرفق الذي يرتكز على الدراسة الواعية لشخصية الإنسان في ما يتطلع إليه الدعاة إلى الله من مواجهته بالحقيقة الحاسمة، لتكون بمثابة الصدمة التي تهز الفكر، من دون أن تثير المشاعر، لأنها تستهدف تحديد الموقف من الفكرة، لا تحديد الموقف من الإنسان، لتستعيده إلى الساحة ولو بعد حين؟ إن القرآن يطرح الأسلوب الثاني، لأن الدعوة لا تتعقَّد من الآخرين، بل تفكِّر بهم ولهم، وتستجيب لكل مواقع الخير المستقبلي في أعماق فكر الإنسان وروحه، فتفسح له المجال للتراجع من دون الشعور بعقدة الذات.

{وَإِن كَذَّبُوكَ} فلم يستجيبوا لك، ولم يقبلوا بإرادة الحوار معك والتفكير في ما عرضته عليهم من حقائق الإيمان، {فَقُل لِّي عَمَلِي} الذي أقتنع بصلاحه وأتحمَّل مسؤوليته {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الذي تحملتم مسؤوليته بوعيٍ أو بدون وعيٍ، فكل واحد منا يواجه الموقف من خلال مواقعه الفكرية والعملية، من دون أن يضرّ أحدٌ أحداً في النتائج السلبيّة لذلك، ومن دون أن ينفع أحدٌ أحداً في النتائج الإيجابيّة له، {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ} كما تفعلون الآن في ما تواجهونه من كفرانٍ وتكذيب {وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لأنه يبتعد عن خط الحق الذي يريد الله للحياة أن تسير عليه، وللناس أن يأخذوا به.

ولعل هذا الأسلوب يمثِّل الأسلوب الواقعيّ الذي يواجه به كل صاحب فكر حقّ، أصحاب فكر الباطل، فيشعر معه بالطمأنينة والثقة والتخفُّف من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، إذا أدّى ما عليه من واجب، في ما طرحه من أفكار وما مارسه من وسائل الهداية، سواء كان هؤلاء من ذوي قرباه، أو من أصدقائه، أو من الناس البعيدين عنه، فلا يشعر بعقدة الذنب أمامهم، ولا يعيش انفعال المشاعر من خلالهم، لأن الحياة رسالةٌ وإِرادةٌ وقدرة، فإذا بلَّغ رسالته بالوسائل الملائمة، وأكّد إرادته بالمواقف القويَّة، وأعطى كل طاقته، ولم يبق عنده شيءٌ مما يقدّمه أو يعطيه، فقد قام بواجبه، بكل صدقٍ وإخلاص، وفي ذلك الرضا كل الرضا، والراحة كل الراحة، في ما يريده الله له، وفي ما يطلبه منه.

* * *

السمع هو سمع العقل

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ولكن بعقول غائبةٍ عن كل المداليل التي توحي بها الكلمات، ومشاعر معقّدة ممّا تتضمنه الآيات، فلا تتعقد منهم إذا رفضوا ما تطرحه عليهم، أو كذبوا بما تدعوهم إليه، ولا تتهم نفسك بالفشل لأنك لم تنجح في دعوتك أو في حركة أسلوبك، بل اعتبر المسألة كما لو كنت تتحدث مع الصمّ الذين لا يسمعون، لأن الصمم على قسمين، فهناك صممٌ في السمع على أساس عضويٍّ عندما تختل قوّة السمع في الأذن، وهناك صممٌ في الوعي، في ما يمثّله من اختلالٍ بوعي الحاسّة لما سمعه من خلال ما يتحرك به عقل السمع من وعي المضمون الداخلي للكلمة، وبذلك كانت مشكلة الداعية أمام الناس تتمثل في نقطتين: الأولى أن يسمعوا منه الكلمات كألفاظ وأصوات، والثانية، أن يسمعوها منه كمعاني ومداليل. والأولى تتصل بالجانب المادي للسمع، والثانية تتصل بالجانب المعنوي له. وبذلك كانت المسألة مرتبطةً به من جهة وبالآخرين من جهةٍ أخرى. وإذا كان من مهمته أن يزيل الموانع من جهته، فليس من مسؤوليته أن يرفع الموانع من جهة الآخرين إذا اغلقوا آذانهم عن الاستماع، أو إذا أغلقوا عقولهم عن الوعي لما استمعوا إليه، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} ما سمعوه.. وبهذا كانت الكلمة الأخيرة إيحاءً بأن الذي يسمع ولا يعقل، كمن لم يسمع من الأساس، لأن مهمة السمع أن يرسل الكلمة إلى القلب والعقل والشعور، فإذا تجمّدت عند حدود الأذن، كانت بمثابة الصدى الذي لا معنى له، بل هو الدويّ الذي يحس به الأصمّ دون أن يعي منه شيئاً.

* *

البصر هو بصيرة الإيمان

{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} نظر الأبله الذي لا يعي معاني الأشياء التي ينظر إليها، فلا يجد منها إلا الصورة من دون أن يتعرف ملامحها، أو يدقّق في مضمونها، أو يدرك آفاقها، وبذلك لا يتحوّل البصر عنده إلى أداةٍ للمعرفة، بل يبقى مجرد آلة تصوير ترصد الهيئة الظاهرية للشيء، ثم تتركها في سلّة المهملات. وهكذا تكون النظرة البلهاء المغلقة، حالة ظلام عقليّ في حركة الشخصية، فيتساوى أمامها الأعمى والبصير، لأن النتائج السلبيّة واحدةٌ أمام الحالتين، فلا تتعقد ـ يا محمد ـ من ذلك، لأنهم ينظرون إليك بعيون مبصرة في حركة الضوء، عمياء في حركة العقل. {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46].

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} عندما يعذبهم، فإنه يؤاخذهم بأعمالهم بعد أن منحهم كل أدوات المعرفة من سمعٍ وبصر وعقل، وسهّل لهم كل وسائلها من وحيٍ وشريعة وغير ذلك، {وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} عندما يتركون ذلك، فلا يستعملونه في ما يفتح عيونهم على النور، وقلوبهم على الإيمان.

ـــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي طالب(ع)، علي، نهج البلاغة ـ (المعجم المفهرس) دار التعارف للمطبوعات، ط:1، 1041هـ ـ 1990م، قصار الحكم: 172، ص:378.