تفسير القرآن
يونس / من الآية 48 إلى الآية 56

 من الآية 48 الى الآية 56
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ* قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ* أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ* ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ* وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ* وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ* أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَـوَاتِ والأرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* هُوَ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(48ـ56).

* * *

معاني المفردات

{أَجَلٌ}: الأجل: المدة المضروبة للشيء.

{بَيَاتًا}: ليلاً.

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ}: الاستنباء: طلب النبأ الذي هو الخبر.

{لاَفْتَدَتْ}: الفداء: حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه.

{وَأَسَرُّواْ}: أخفوا.

* * *

يوم القيامة.. وعد الله الحق

ويستعجل المشركون معرفة موعد يوم القيامة، ويلحّون بالسؤال عنه، إمَّا للفضول الذاتي الذي يحاول أن يكشف الموعد المجهول الذي يحدثهم عنه الرسول، وإمّا للاستهزاء والسخرية، في ما يريدون أن يثيروه من التفاصيل في التوقيت، في الوقت الذي كانوا ينكرون فيه أصل المبدأ، وإمّا لتحويل المسألة إلى جدلٍ يستهدف الملهاة في أسلوبٍ شيطانيٍ يتعمد إشغال النبي(ص) بالهوامش الصغيرة.

* * *

التساؤل عن الوعد بالعذاب

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأن علامة الصدق في ما يخبر به أيّ إنسانٍ، أن يكون عارفاً بتفاصيله، مُلماً بخصوصياته، انطلاقاً من وضوح الرؤية لديه، ولكن النبي يجيب ـ في ما علّمه الله ـ من موقع الإنسان الذي يتواضع لله، فيدفعه ذلك إلى التواضع في أسلوب الحديث عن طبيعة معرفته بالأشياء، فهو لا يملك العلم الذاتي بهذه الأمور الغيبية، لأنه لم يطّلع عليها بطريقةٍ حسيةٍ ليكون عارفاً بكل شيء عنها، بل كل ما هناك أنه يعرف من خلال الوسائل التي يقدِّمها الله له، في مصادر المعرفة ومواردها، ولا يستطيع أن يقرّر شيئاً من نفسه، ولا يملك أن يفرض على الله شيئاً لا يريد الله أن يعرّفه به، لأنه يعرف جيداً مدى قدرته التابعة لإرادة الله الذي لا يبلغ العالمون كنه قدرته.

* * *

الضرر والنفع من الله

{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} فهو الذي يجلب لي النفع عندما يشاء ذلك، وهو الذي يوقع الضرر بي عندما يشاء ذلك، لأن الكون خاضع له بوجوده وتفاصيل حركته. ومن هنا لم يستطع النبي أن يحمي نفسه من غيب السوء الذي قد يحلّ به، من خلال مواقع الغيب عند الله، مما يعلمه الله ولا يعلمه هو، كما لم يستطع أن يجلب لنفسه النفع، من خلال أسرار الغيب، في ما يصلح أمره أو يفسده. ويمكن أن يكون وزان هذه الآية وزان قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]. وبذلك يتناسب الجواب مع السؤال.

ثم أثار الحديث معهم حول القاعدة التي تحكم كل التفاصيل، فليست هناك حالة خلودٍ لأيّة جماعة مهما كانت، ولأيّة ظاهرة مهما عظمت، فقد أقام الله الكون على أساس سنَّة طبيعيّة شاملة، وهي أن لكل أمّةٍ أجلاً لا تتعداه، مما تقتضيه طبيعتها الذاتيّة من عناصر الوجود الطبيعيّة، أو مما تفرضه العوامل الخارجيّة الطارئة، فلا مجال لأن تنقص منه، أو تزيد عليه، في ما أراده الله للحياة أن تتحرك وتعيش. فإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ لهم من انتظار الوقت الذي تنتهي عنده الحياة الخاصة والعامة الخاضعة للقانون العام الشامل، القاضي بأن لكل موجودٍ نهاية، أمّا متى يكون هذا، وما هو موعده؟ فهو من الغيب الذي اختُصَّ الله بعلمه، في كل الأمور المتعلقة بمشيّئته، مما لا يعلمه الناس إلا من خلاله.

* * *

لكلّ أمةٍ أجل

{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} فعليهم أن ينتظروا ذلك الاستحقاق في تفكيرهم الذاتي في مواجهتهم للأشياء، ولا يتناولونه تناول اللاّمبالاة الذي يحاول أن يغرق في التفاصيل ليضيع معه المبدأ. ولا بدّ لهم من أن يدرسوا سنَّة الله في الأشياء من خلال التاريخ الذي عاشته الأمم السابقة التي ربما كانت أكثر منهم قوّةً وعدداً، فانقضت عندما جاء أجلها، لتفسح المجال لأممٍ أخرى من بعدها. وهكذا دواليك، حتى جاء الدور الطبيعيّ لنا، لننتظر ما انتظروه، وليحلّ بنا ما حلّ بهم، عند حلول الوقت المحتوم الذي تفرضه طبيعة الشيء، أو الوقت المخروم الذي تقتضيه طبيعة الحالات الطارئة. ثم ماذا يعني هذا الإلحاح على تحديد الموعد واستعجاله؟ إن الإنسان يستعجل الموعد الذي ينتظر فيه الخير والسعادة والفلاح، وهو الذي يعيش فيه المؤمنون الصالحون الذين آمنوا بالله وأطاعوه، فاستحقوا ثوابه في ما وعد به المؤمنين المتقين، أمّا هؤلاء المكذّبون العاصون، فماذا ينتظرهم غير العذاب، الذي يجعل من حياتهم هنا راحةً وأمناً وسعادة، في مقابل ما ينتظرهم من تعب وخوفٍ {قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا} في الليل {أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} ليثيروا الحديث حوله مع الرسول في جدلٍ عقيم لا يؤدّي إلى أيّة نتيجةٍ.

ثم إن الإنسان يطلب المعرفة من أجل القناعة والإيمان، فإذا كنتم لا تصدِّقون النبيّ في ما يخبركم به عن الله، فماذا تنتظرون للإيمان؟ هل تنتظرون مواجهة الحقيقة وجهاً لوجه {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} فهل تؤمنون بعذاب الله وعقابه عند وقوعه؟ {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} تماماً كما لو كنتم تحتقرونه ولا تلقون إليه بالاً، فها أنتم هنا الآن، فواجهوا الحقيقة من موقع لذعة النار، وسعير العذاب، {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} بالكفر {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} الذي يمتد إلى ما شاء الله من زمنٍ في ما أراده الله لهم من سجن مؤبّد، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فلن يظلمكم الله شيئاً في ما ينزله عليكم من عذاب، فقد وعدكم ذلك في ما وعد به الكافرين به المنحرفين عن طاعته، إذ جعل الله لكل شيء حدّاً لا يريد للناس أن يتعدّوه، وجعل للتعدي لحدوده عقاباً معيّناً، فإذا أخذهم به فلم يظلمهم.

* * *

ندامة الكافرين يوم القيامة

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} في أسلوب يوحي بعدم التصديق، تماماً كما لو كان يريد أن يثير في نفس النبيّ حالة التراجع من خلال الإيحاء بغرابة الموضوع واستحالته، ما يجعل من الحديث عنه حديثاً لا يتصل بحركة الحقيقة في العقل، بل بحركة الأجواء الضاغطة التي تدفع الإنسان إلى الكذب والقول بغير علم في ما يريد أن يجلب لنفسه فيه خيراً، أو يدفع عنه شراً، فإذا رأى النتائج السلبيّة لموقفه تراجع عنه. ولكن الله يريد للنبي أن يؤكد لهم هذه الحقيقة، في حجمها الطبيعي الذي لا مجال لتصغيره أو تكبيره أو إنكاره بالذات. {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} وستلتقون به، ولن تستطيعوا الهرب منه، مهما حاولتم، ولن تملكوا القوة على مواجهته {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فإن الله إذا أراد شيئاً أدركه وحقّقه كما يريد، وسيواجهون الموقف الذي لا يمكن لهم أن يتحملوه {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ} لما تواجهه من هولٍ عظيم، وخوفٍ كبير، مما كانت تستهين به وتحتقره في البداية. {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} فقد كان بإمكانهم أن يتخلصوا منه بالإيمان والعمل الصالح عندما كانوا في الدنيا، {وَقُضَِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الذي يرتكز على أساس أن يكون الجزاء بالأعمال {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا يعاقب الإنسان بما لم يعمل، ولن يؤاخذ بأكثر مما عمل.

* * *

وعد الله حق

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ} فهو الذي خلقها من العدم، وهو القادر عليها والمسيطر على مقاليدها، فلا يعجزه شيء منها، فإذا شاء شيئاً تحقق، وإذا وعد بشيء كان حقّاً، خلافاً لهؤلاء الشركاء الذين لا يملكون السيطرة على الأشياء، فقد يعدون ويخلفون، لأنهم لا يملكون الأمر كله، ما يجعل من قضيّة الوفاء بالوعد وعدمه قضيةً خاضعةً للظروف الموضوعية الثابتة أو الطارئة التي تقتضي وجوده أو عدمه، {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يعرفون سرّ قدرة الله وسعة ملكه وعظمة خلقه، فبيده أمر الحياة والموت، وبيده تفاصيل ذلك كله {هُوَ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ليحاسبكم على أعمالكم في الدنيا، مما أطعتموه فيها أو عصيتموه.

وهكذا تتعمّق هذه الحقيقة الإِلهية في النفس، ليتضاءل الإنسان أمام ربّه، وليتواضع لله الذي خلقه، فيطيعه في ما أمره به، كما يطيعه في ما نهاه عنه. وذلك هو هدف الرسالات في ما تتحرك به من أساليب الترغيب والترهيب، أو تأكيد المفاهيم الأساسية في قضية الوجود والقدرة والحياة والموت، من أجل صياغة الإنسان المسؤول الذي يواجه الحياة بجديّة، ويتحرك معها بمسؤوليّة.