تفسير القرآن
يونس / من الآية 57 إلى الآية 60

 من الآية 57 الى الآية 60
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ* وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}(57ـ60).

* * *

معاني المفردات

{مَّوْعِظَةٌ}: الوعظ: زجر مقترن بتخويف، قال الخليل: هو التذكير بالخير في ما يرقّ له القلب[1].

* * *

القرآن موعظة وشفاء

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ} إنها الدعوة الإِلهيّة للناس، ليستثير فيهم إنسانيتهم التي تبحث ـ دائماً ـ عن ينابيع الخير في الإِحساس والشعور، لتفجِّر فيهم القلق الباحث عن الطمأنينة وعلامات الاستفهام المتطلعة إلى المعرفة، والاهتزاز الذي يبحث عن الاستقرار، وذلك من خلال الإيمان المتحرك الذي يُخرجهم من جوّ اللامبالاة ليضعهم في أجواء المسؤوليّة، بالموعظة الصادرة من الله في وحيه المنزل على رسله، وبالأسلوب الذي يفتح أبواب الروح على الله، ونوافذ العقل على الحق، وآفاق الحياة على الخير، وتلك هي مواعظ القرآن في آياته، التي لا تتجمد في أسلوب، بل تتحرك في أكثر من واحد من أساليب الهداية، ليتكامل في الإنسان الجانب العقلي والعاطفي، ليبني له العقيدة المتوازنة، والمشاعر المتكاملة {وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} في ما يعالجه من أمراض الفكر والروح التي تنفذ إلى الإنسان، فتدخل عقله لتثير فيه الشبهات التي تفسح المجال للكفر والضلال والنفاق، لتدفع الإنسان للسير في هذا الاتجاه المنحرف، وتدخل شعوره فتثير فيه العداوة والحقد والبغضاء واليأس والخذلان، فتحوّله إلى إنسان معقّد ضد الخط المستقيم في الحياة.

وتأتي آيات الله لتدلّ الإنسان على مصادر الحق وموارده، وعلى ينابيع الخير ومجاريه، فيعيش معها نظافة الفكر والعاطفة، وينطلق في عقل صحيح وروح صافية غير معقّدة. وهذا ما يريده الله لعباده في وعيهم لاياته، أن تتحرك في داخلهم لتغيّر فيهم كل شيء يدفع إلى الضلال أو يقود إلى الانحراف. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} فهو الذي يوضح لهم السبيل لئلا يضيعوا في الدروب المتشابهة الضائعة في متاهات الصحراء، وهو الذي يهديهم إلى آفاقه، ليعيشوا معه في صفاء الإيمان ونقائه ورحابة آفاقه، وهو الذي يفيض عليهم من رحمته من خلال ما يغدقه عليهم من ألطافه التي تقودهم إلى جنته وتبعدهم عن ناره وتلتقي بهم في رضوانه، وذلك كله للمؤمنين الذين عاشوا الإيمان فكراً وروحاً وشعوراً ومحبّةً لله وخوفاً منه.

* * *

فضل الله خير مما يجمعون

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} لأن الفرح الحقيقي، هو الفرح الذي ينطلق من قاعدةٍ ممتدّةٍ في كيان الإنسان وحياته، من خلال امتدادها في قضية المصير، ولن يكون ذلك إلا بالالتقاء بالله في فضله، في ما يفيض على الناس من هدايته ورضوانه، وما يمطرهم به من شآبيب رحمته، لأن العيش مع الله يمثّل الخير الذي لا شرّ معه، والراحة التي لا تعب فيها، والسرور الذي لا حزن معه، والأفق الواسع الذي لا يضيق عن شيءٍ، ولا يتعثر في موقف. أمّا مال الدنيا وشهواتها وأطماعها وطموحاتها، فهي الأشياء التي يلتقي بها الإنسان في الطريق، فيمر بها مروراً عابراً، ثم يتركها لفقر طارىءٍ أو مقيمٍ، أو لألمٍ شديد، أو حزنٍ خانقٍ، أو فشل ذريعٍ، أو خسارةِ فادحة، أو موتٍ يأكل ذلك كله، ليسلمه إلى المصير المحتوم حيث الهلاك والعقاب عند الله. ولكن فضل الله ورحمته يحفظان الإِنسان ويحوطانه ويُسلمانه إلى الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، فيشعر الإنسان معهما بالأمن والطمأنينة، وفي ذلك الفرح كل الفرح، حتى في أشد ساعات الحزن، وفي أقسى حالات الشدّة، لأنه يشعر أنه يعاني ما يعانيه تحت عين الله ورعايته، فيهون عليه كل شيء لأنه بعين الله، وفي سبيله، بعيداً عن كل أثقال الهموم والغموم، لأن الحياة عنده رسالةٌ تحتوي كل انفعالات الذات ومشاعرها، وليست حركةً في صعيد الذات على حساب قضايا الرسالة وأهدافها.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} إنّه الله هو الذي ينزل الرزق، وهو الذي يحدّد للناس ما يأخذون منه، مما فيه صلاحهم، أو ما يدعون منه، مما فيه فسادهم، فإذا أنزل حلالاً فعليهم أن يتبعوه، وإذا أنزل حراماً فعليهم أن يتركوه، أمّا إذا لم ينزل شيئاً من التحريم فيه، فلا بد لهم من أن يأخذوا بأسباب الرخصة إذا لم يمنعهم عنه، ولا يجوز لهم أن يشرّعوا فيه من عند أنفسهم، فيحلّلون منه شيئاً ويحرمون شيئاً آخر مما لم يأذن به، انطلاقاً من أهوائهم ونزواتهم.

* * *

التحليل والتحريم المزاجي

{قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فهل أخذتم إذناً من الله في ذلك، وهو الذي يملك أمر التشريع كما يملك أمر الوجود، أم أنكم تفترون على الله، فتأخذون لأنفسكم صفة التشريع من دون إذنه، وتنسبون إليه أمراً لم يصدر فيه شريعةً؟ وتلك هي القاعدة العامة في كل ما لم تثبت حجيته وشرعيته، فإن نسبة الحكم فيه إلى الله غير جائزة من قريب أو من بعيد، لأنها افتراءٌ عليه. {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هل يتركهم من دون عقاب، وقد أساؤوا إليه بالكذب عليه، وأساؤوا إلى الناس بتعريضهم للمفسدة في ما أَحلّوه وهو حرام، أو تفويت المصلحة عليهم في ما حرّموه وهو حلال. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} في ما أفاض عليهم من رزقه، وأغدق عليهم من نعمه، وشرّع لهم من شرائعه، ممّا يستوجب شكرهم بالخضوع له وإطاعته والعمل بما يرضيه، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} فيتمردون ويكذبون عليه، ويبتعدون عن ساحة رحمته.

ـــــــــــــــــــ

(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:564.