تفسير القرآن
يونس / من الآية 65 إلى الآية 70

 من الآية 65 الى الآية 70
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات

{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَـوَات وَمَنْ فِي الأرضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ* هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّليْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَـوَات وَمَا فِي الأرضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}(65ـ70).

* * *

معاني المفردات

{الْعِزَّةَ}: شدة الغلبة.

{يَخْرُصُونَ}: يكذبون.

{مُبْصِراً}: استعار الإبصار لليل والمعنى: مضيئاً.

{يُفْلِحُونَ}: يفوزون.

* * *

الله يواسي نبيه

{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ}. كان المشركون يثيرون الكلام الجارح القاسي للعقيدة والاتهامات غير المسؤولة للنبي محمد(ص) بالإضافة إلى ألفاظ السباب والشتائم، وربما أثار هذا الجو الحزن في نفس النبي(ص)، ما قد يوحي بضعف الموقف الذي لا يملك الكثير من أدوات المواجهة، وقد ينعكس على صورة الرسالة في الساحة وحركتها في الصراع، ولكن الله أراد لنبيّه أن لا يستسلم لكل نوازع الضعف ومشاعر الحزن، لأن كلمات الكفر لن تهزم الإيمان، ما دام الإيمان يمثل الحقيقة التي تضرب جذورها بأعمق أعماق الحياة، بينما يعيش الكفر الاهتزاز على السطح، بعيداً عن أيِّ عمقٍ. ولذلك يقف الإيمان المنطلق من رحاب الله في خط المواجهة ليؤكد موقفه الصامد الذي يتحمل الآلام والجراح والمشاكل بقوّةٍ من موقع الوثوق بنصر الله، والاطمئنان إلى رعايته وعنايته، ما يجعل النتائج الإيجابيّة الحاسمة للمؤمنين في نهاية المطاف. ولذلك كانت التربية الإلهية للرسول(ص) تؤكد على أن عليه أن يتطلع إلى نهايات الأمور في حركة الصراع، لا أن يتطلع إلى بداياتها، وأن يفكر بالآلام والمشاكل التي تواجهه كخطوةٍ متقدّمةٍ في طريق النصر، لأن عملية التغيير تفرض المعاناة كشرطٍ موضوعيٍّ للنجاح، وإذا كانت المعاناة حركةً روحيّةً داخليّةً في سبيل الله، فإنها توحي للإنسان المؤمن بالفرح الروحي الذي تبتسم فيه الجراح، وتصفق فيه الآلام، وتتعمق فيه مشاعر القوّة التي تتصل آفاقها بالله القوي العزيز، لتواجه التحديات التي يثيرها دعاة الشرك والكفر والضلال بالحقيقة القرآنية.

* * *

العزة لله جميعاً

{إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} فهو الذي يملك الأمر كله، ويملك وجودهم في ما يخططون ويثيرون من التهاويل، فلا يملكون معه أيّ شيءٍ إلا بما شاء، ولا يضرونه شيئاً، لأنهم في المواقع التي تمثل الضعف كله، في مواجهة العزّة الإلهية التي تمثل القوّة كلها، ما يجعل له الغلبة في نهاية الأمر، من خلال ما أجرى عليه سننه الكونيّة. {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع ما يقولون ويعلم ما يضمرون وما يكيدون، فهم مكشوفون لديه، لا يسترهم منه ساتر، ولا يحميهم منه أيّ شيء .

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَـوَات وَمَنْ فِي الأرضِ} فكل الموجودات ملكه، لأنها مخلوقةٌ له خاضعةٌ لقدرته {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ} في ما تخلقه لهم أوهامهم، وتثيره ظنونهم، مما قد يتوهمون أنه الحقيقة، ولكنه يمثل الباطل، فكيف يمكن أن يكون هذا المخلوق الضعيف أيّاً كان، شريكاً لخالقه، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} ويخبطون خبط عشواء في حسابات التخرصات والتخمينات التي لا تملك أساساً ثابتاً في العقل ولا في الواقع.

* * *

جعل الليل سكناً والنهار مبصراً

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّليْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} ولتخفِّفوا فيه من عناء التعب والجهد، فتتجدّد لكم القوّة من خلاله ليوم عملٍ جديد، ولولا ذلك لما استطعتم أن تنطلقوا بعيداً في حركة العمل في الحياة، {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} مفتوح العيون على كل إشراقة نور، لأنه يثير النور في كل أفق ينطلق فيه، فيهديكم إلى سبل الحياة، ويفتح أمامكم كل آفاق الحركة، ويدلُّكم على كل منابع الرزق ومصادره، ولولا ذلك لعشتم في ظلام مطبق لا تهتدون فيه ولا تبصرون {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} لأن الإنسان الذي يعيش مسؤولية الكلمة التي يسمعها، لا بدّ له من أن يتوقف عندها ولا يمرّ بها مرور الكرام، لأنها قد تمثل الحقيقة في مدلولها العميق، كما قد تمثل الباطل في إيحاءاتها العميقة، فلا بد له من التفكير الواسع العميق الذي يعرّفه الحق من الباطل، فلا يتردد ولا يتحيز ولا يضيع بين الاحتمالات المتنوّعة، والكلمات المختلفة. وعندما يفكر هؤلاء في الله، وفي ما خلق من الموجودات في السموات والأرض، وما مهّده للإنسان من صنوف المعاش ووسائله، وما يتلوه عليهم النبي من قرآن يؤكد لهم الحقائق الكونيّة الإيمانية، فلا بد لهم من أن يلتقوا بحقيقة الإيمان، ويعرفوا أن كل دعوات الشرك هي أضاليل وأوهام لا تثبت أمام النقد، ولا تقف أمام الحوار.

* * *

ادّعاء الولد لله

{قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} فقد قالوا عن الملائكة إنها بنات الله، وعن عيسى إنه ابن الله وغير ذلك {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} المطلق الذي لا يحتاج إلى أحد، بل يحتاج إليه كل أحد. فماذا يمثّل الولد بالنسبة إليه، والناس إنما يشعرون بحاجتهم إلى الولد من مواقع الضعف في القدرة ليكون عوناً أو مساعداً لهم. {لَهُ مَا فِي السَّمَـوَات وَمَا فِي الأرضِ} فهو الخالق لكل شيء، فكيف يعيش الحاجة إلى أيِّ شيء، ليحتاج إلى الولد وإلى أمثال ذلك؟ {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَآ} فإنكم لا تملكون حجّة من علمٍ أو سلطاناً من دليل، ولكنه الوهم الذي لا يتصل بالعلم من بعيدٍ أو من قريب {أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وكيف يتحدّث الإنسان عن قضايا الإيمان والحقيقة من خلال الأوهام التي تدور في ذهنه؟ وكيف يتحرك في قضايا المصير بهذه الطريقة؟ وهل يستطيع أن يتحمل مسؤولية النتائج السلبيّة على مستوى حياته وحياة الناس من حوله في ما يثيره من هذه الأضاليل التي لا ترتكز على أساسٍ من علمٍ أو يقين؟ وماذا يقدّم من جواب لكل الأسئلة التي ستوجّه إليه في يوم الحساب بين يدي الله؟

* * *

لا يفلح الافتراء على الله

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} لأنهم لم يأخذوا بأسباب الفلاح من الصدق في الكلمة، والإخلاص في العمل، والاستقامة في الفكر والموقف، بل أخذوا بأسباب الخسران، في ما اختلقوه من أكاذيب، وفي ما مارسوه من أضاليل. وإذا كانوا قد حصلوا على بعض النتائج السريعة من مالٍ أو جاهٍ أو شهوةٍ، فماذا يبقى لهم من ذلك؟ {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} يستمتعون به حيناً من الزمن، ويستسلمون معه لبعض ملذاتهم وشهواتهم وانفعالاتهم الحميمة. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فيقفون للحساب وقفة ذلّ وهوان {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فذلك هو المصير المحتوم للكافرين الذين عاشوا الكفر فكراً وقولاً وعملاً وتمرّدوا على الله الذي خلقهم، ولم يركنوا إلى ركن وثيق من الحجة القاطعة والبرهان القوي، فليعتبر الآخرون بذلك، وليعيدوا النظر في حساباتهم، إذا كان لهم شغلٌ في مصيرهم في الدنيا والآخرة، قبل فوات الأوان.

وفي ضوء هذه الآيات، يمكن للإنسان أن يستوحي، أن مشكلة الكفر والضلال متصلةٌ بمشكلة الجهل في الإنسان، الذي لا يحاول أن يبحث عن الحقيقة من خلال استخدامه للوسائل التي أراده الله أن يأخذ بها في ما خلقه من وسائل المعرفة، وبذلك يضيع في متاهات الأوهام، فيستسلم للنتائج المدمّرة التي تدمّر له حياته الروحيّة في الداخل، وحياته العملية في الخارج، وتسلمه إلى المصير المحتوم الذي هو العذاب الشديد في الآخرة، يوم يقوم الناس لرب العالمين.