تفسير القرآن
يونس / من الآية 74 إلى الآية 82

 من الآية 74 الى الآية 82
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ* ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأيهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ* فَلَمَّا جَآءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ* قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ* وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ* فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ* فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ* وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(74ـ82).

* * *

معاني المفردات

{نَطْبَعُ}: الطبع: أن تصوّر الشيء بصورة ما.

{وَمَلأيهِ}: جماعته.

{لِتَلْفِتَنَا}: لتصرفنا.

{الْكِبْرِيَآءُ}: الترفّع عن الانقياد. وقيل هي الملك وقيل العظمة والسلطان.

{يُصْلِحُ}: يزيل ما فيه من فساد بعد وجوده.

* * *

إرسال موسى وهارون إلى فرعون

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} فلم تقف المسيرة عند نوح، لأن الله أراد للإنسان أن يواصل رسالة المعرفة من خلال الوحي في ما لا يملك وسيلة معرفته، أو في ما يحتاج في معرفته إلى جهدٍ كبير لا تتوفر لديه بعض طاقاته، ليكون ذلك هو الأساس الذي تنطلق من قاعدته قضية النموّ والتطور في حركة الحضارة الإنسانية التي يريد الله لها أن تتحرك من مواقع روحيّة وفكرية واقعية.

وهكذا كانت الرسالات منطلق هدى، وينبوع خير، وحركة إبداع، ويقظة روح {فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إن الرسالات لا تمثّل الصدمة التي تهز في الناس شعورهم، بل تمثّل الفكرة التي تحرك فيهم عقولهم، ولذلك كانت أدواتها فكرية عقلانية، فلا تدعو الناس إلا من خلال الحجة التي تدفعهم إلى التفكير، وتقودهم إلى التأمل والحوار، لأن ذلك هو الذي يجعل للقناعات قوّتها في حساب العقيدة، ويؤكّد لها مواقعها في مواقع الصراع. ولكن الكثيرين من الناس لا يريدون أن يفكروا من موقعٍ عقليٍّ موضوعيٍ {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} من غير قاعدة للتكذيب، بل كانت القضية مزاجاً وشهوة وتمرّداً على أساس الذاتية التي تحدد مواقفها من خلال انفعالاتها {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} فنختم على عقولهم بسبب ما اختاروه لأنفسهم من العدوان على الرسل والرسالات، بعد أن أغلقوا قلوبهم عن كل كلمات الحق وجمّدوا مشاعرهم عن الاستجابة لنداء الله، فكانت النتيجة هي ابتعاد العقول عن الإيمان، وذلك من خلال ما ربط به الله الأمور في قانون السببيّة الذي يتصل فيه المسبب بالسبب.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأيِهِ بِآيَاتِنَا} في المرحلة الصعبة التي كان يعيشها المستضعفون تحت سلطة هذا الطاغية وجماعته، مما كان يفرض حالة إنقاذ غير عاديّة، من أجل أن تتحرك المسيرة الإنسانية بعيداً عن الضغوط التعسفية التي تلغي إرادتها الحرّة، وتؤخر اندفاعها نحو التقدم في مجالات الفكر والحضارة، فكان إرسال موسى وهارون بالنبوّة من أجل تحقيق عملية الإنقاذ التي تتحرك في خط التوعية على مستوى الدعوة، وفي خط التعبير على مستوى المواجهة، {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } فلم يناقشوا فكر الدعوة من موقع الفكر، بل واجهوه بالاستكبار الذاتي الطاغي الذي يوحي للنفس بأنها على حق دائماً مهما كانت طبيعة الطروحات، ولذلك فإنهم يتحركون في أجواء الجريمة، فيجرمون على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع وعلى مستوى العلاقات، في ما يؤيّدون، وفي ما يرفضون، وذلك لإِرضاء غريزة الكبرياء عندهم التي تدفعهم لأن يجحدوا الحق ويضطهدوا أهله في عملية إذلالٍ وإخضاع. وتلك هي سيرة الطغاة والظلمة والمستكبرين الذين يعيشون الجريمة من مواقع الاستكبار.

* * *

دعوى السحر في رسالة موسى

{فَلَمَّا جَآءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} لم يخضعوا له، ولم يستسلموا لآِياته وبراهينه، بل أصرّوا على العناد والجحود، وحاولوا أن يثيروا الضباب في وجه الرسول الذي يحمل الحق إليهم، فأنكروا رسالته، {قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} في الوقت الذي كانوا يعرفون فيه الفرق بين السحر الذي يمثل الوجه الخادع من الصورة، وبين الحق الذي يجسّد العمق الدقيق في ملامحها الأصيلة، ولكنهم كانوا يبحثون عن كلمةٍ، أيّة كلمةٍ، تبرّر لهم هذا الموقف أمام الناس البسطاء، ليضلّلوهم وليحجبوا عنهم الحقيقة من خلال غشاء الضلال، تماماً كما هم دعاة الباطل في كل زمان ومكان، من خلال ما يثيرونه من الغبار في وجه الدعاة إلى الله من تهمٍ كاذبةٍ، وكلماتٍ ضالّة، وحركاتٍ مضلّلةٍ.

* * *

ردّ موسى

{قَالَ مُوسَى} مستنكراً قولهم {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} يحمل الحجة الواضحة والبرهان القاطع {أَسِحْرٌ هَـذَا} لتعطلوا حركته في الساحة، ولتبطلوا قدسيته في النفوس بالإيحاء بمعنى السحر فيه، ليتعامل الناس معه تعاملهم مع ألاعيب السحر وتهاويله، من موقع الدهشة والتعجب، لا من موقع الإيمان والاقتناع {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} لأنهم يخادعون الناس، ويزيّفون لهم الصورة الحقيقيّة للأشياء، ويتلاعبون بحياتهم كما يتلاعبون بأنظارهم، وبذلك كان موسى يشجب السحر من خلال إعلانه عن خسارة الساحرين في قضية المصير، ليواجه الدعاية المضادّة، بقوّة الهجوم على الفكرة المثارة حول رسالته، ليتعرف الناس فيه وجه النبيّ الذي يرفض السحر من ناحية المبدأ، بعيداً عن وجه الساحر الذي يزهو بسحره ليربح تصفيق الناس ولمعان عيونهم بالدهشة والإِعجاب.

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} قالوها، في عملية إنكارٍ للنتائج السلبيّة التي يواجهون من خلالها هزيمة كل مفاهيم الصنميّة المتخلّفة التي ورثوها من آبائهم، فعاشت ـ في داخلهم ـ في مواقع القداسة الجاهلة التي ترى في الماضي ـ بكل جهله وتخلّفه ـ معنى التقديس، فلا يمكن أن يناقشه أحدٌ، مهما كانت درجة الخطأ فيه، لأنهم لا يميزون بين العاطفة التي تحكم علاقتهم بالماضي، وبين العقيدة التي تخضع لاعتبارات الحق المرتكز على الحجة والبرهان، ولو فكروا جيداً في المسألة، لرأوا أن هؤلاء الآباء هم بشرٌ كبقية البشر، فقد يصيبون الحقيقة، وقد يخطئونها، فلا بد من مناقشة فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم، تماماً كما نناقش فكر الآخرين الذين يعيشون معنا، لأن الزمن لا يعطي للشخص أو للفكر معنى الحقيقة في حركته، بل كل ما هناك، أنه يفسح المجال للطاقة الفاعلة أن تتحرك في مجاله، لتعبر عن نفسها بما تملكه من ملامح الحق والباطل، وبذلك يصبح من حق أي إنسان يفكر بغير الطريقة التي يفكر بها الأقدمون، أن يعمل ليغيّر الفكر الذي تركوه، والبناء الذي بنوه، فليس لأحدٍ أن ينكر عليه ذلك، بل كل ما هناك أن لهم أن يناقشوه في طروحاته، كما يناقش هو الآخرين، في ما طرحوه. ولكن هؤلاء الذين واجهوا موسى لم ينطلقوا من موقع التفكير والإخلاص للحقيقة عندما أنكروا عليه ذلك، وقالوا له: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ثم وجهوا خطابهم إلى موسى وهارون معاً، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأرضِ} لأنهم يظنون أن الناس مثلهم لا ينطلقون من قاعدة الحق عندما يعارضون، بل يعتبرون الدعوة الجديدة التي يثيرونها في الساحة وسيلةً من وسائل الإمساك بالسلطة، والحصول على الامتيازات الاجتماعية والسياسية، والوصول إلى مواقع الكبرياء في الأرض، وبهذا كان موقفهم من موسى وهارون، هو موقف الذي يدافع عن امتيازاته، بمواجهة الامتيازات التي يريد الآخرون أن يكتسبوها في طموحاتهم وأطماعهم، ولهذا أطلقوا الصرخة في وجه الرسولين الأخوين {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} فافعلا ما تريدان، فلن نستمع لكما، ولن نفكر في ما تقولانه، لأننا لن نتنازل عما نحن عليه من عقيدة وسلطة.

* * *

ردّ فرعــون

وفكَّر فرعون أن يهزم موسى بالسحر، لأن للسحر تأثيره الكبير على الناس، وظنّ أن موسى لا يستطيع مواجهة هذا التحدي، فسينهار أمام الرعب الهائل الذي يثيره السحر في روحه، فيفقد قوّته الروحيّة أمامه، وتنهزم قاعدته المعنوية في نفوس الشعب. وهكذا نادى قومه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ* فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} في موقفٍ يوحي لهم بالاستهانة بهم، في ما يحاول أن يثيره من الشعور الخفي في داخلهم بقوّة موقفه وباطمئنانه إلى النتيجة الحاسمة لصالحه في نهاية المطاف، ليهزم موقفهم بذلك.

* * *

إبطال عمل السحرة

{فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} لأنه لا يمثل الحقيقة، بل يمثل الوجه الخادع للأشياء الذي لا ينفذ إلى عمق الواقع، بل يظل صباغاً باهتاً على السطح، وسيزول في أول صدمة. أما الحق، فإن جذوره ضاربةٌ في أعماق الحياة، وذلك هو الفرق بين ما يفسد الحياة، وبين ما يصلحها، وتلك هي القصة بين الزيف والإخلاص، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لأن الله قد أقام الحياة على أساس الحق، فلا يسمح للفساد أن يتعمق فيها، فلا يلبث إلا قليلاً ثم يزول كما تزول الفقاقيع من على وجه الماء، وكما يتبخر الزبد مع الهواء، ويبقى الحق في حركة الحياة ليمتد معها ما امتد الإنسان في الزمن {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} التي تعطي له الثبات والقوّة والعمق والامتداد، ويؤكدها بقدرته وحكمته {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} لأنهم لا يمثلون شيئاً في ميزان القدرة، أو في حركة الحياة.