تفسير القرآن
يونس / من الآية 87 إلى الآية 93

 من الآية 87 الى الآية 93
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاََهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ* وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنو إِسْرَائيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنَا لَغَافِلُونَ* وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(87ـ93).

* * *

معاني المفردات

{تَبَوَّءَا}: اتخذا.

{اطْمِسْ}: الطمس: إزالة الأثر بالمحو.

{وَاشْدُدْ}: هنا بمعنى اطبع.

{وَجَاوَزْنَا}: المجاوزة: الخروج عن الحد.

{بَغْيًا}: ظلماً.

{وَعَدْوًا}: ظلماً.

* * *

موسى يؤمر ببناء قاعدة للمواجهة

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} لتبقى قاعدةً للانطلاق في عملية صنع القوّة المستقبلية، لأن بدايات النصر قد لاحت، فلا مجال للاهتزاز في المواقع، بل لا بد من الإيحاء بالثبات، في ما تمثله إقامة البيوت من ذلك {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي متقابلة في مواجهة بعضها البعض، لأن ذلك يحقق إمكانات المواجهة أمام أيّ خطرٍ داهمٍ كأسلوبٍ من أساليب تجميع القوّة.

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ} التي تمثل الطابع الروحي الذي يطبع هذا المجتمع الجديد الذي يرتكز على أساس عبادة الله في مواجهة عبادة الطاغوت. وربما كان الاكتفاء بإقامة الصلاة باعتبارها المعراج الروحي الذي يجسّد معنى الإيمان بالله في مواقف العبادة والخضوع {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر على فرعون وبداية التحرك من أجل نهاية الطغيان، ليبدأ عهدٌ جديدٌ يرف فيه لواء الحق والعدل على رؤوس الجميع، فلا يبقى هناك مجال لأيِّ ضغطٍ خارجيّ كافرٍ، مهما كان نوعه. ويمكن أن يتوسّع معنى البشارة ليشمل أجواء الآخرة التي تتلقى فيها الملائكة وفود المؤمنين بالبشرى بالجنة التي كانوا يوعدون.

* * *

دعاء موسى على فرعون

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في ما مكنتهم فيه من أسباب القوّة، من مالٍ كثير، وجاهٍ عظيمٍ، ما جعل منهم الفتنة للناس الآخرين، ومكنهم من استغلال ذلك في عملية الإغواء والإضلال {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} في ما اعتاده الناس من ممارسة الضغط النفسي عليهم بالزينة التي تبهر الأبصار وتغري النفوس، وبالأموال التي تضعف المواقف وتسحق الإرادة {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} وامحقها، لئلا يكون لهم سبيل من سبل الضلال في ذلك كله {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي اطبع على قلوبهم حتى لا تنفتح على أيّ فكرٍ يوحي لهم بالامتداد في حياة الناس، وربما فُسِّر بمعنى آخر على خلاف الظاهر {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} لعل الظاهر أنها من تتمة الدعاء، أي وعذّبهم العذاب الأليم الذي ينتظرهم في نهاية المطاف، فيؤمنوا من موقع العذاب الذي يلتقون معه بالحقيقة. وقد يعتبرها البعض معطوفةً على قوله: {لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}، وهو غير ظاهر.

* * *

العبرة من دعاء موسى

وقد نستوحي من ذلك أن الطغاة والظالمين يتوصلون إلى إضلال الناس والسيطرة عليهم من خلال الحالة الاستعراضية التي يحاولون من خلالها التأثير على نفسيّة الناس لإضعافها بمظاهر الزينة والمال والجاه التي تبهر الأبصار وتعشي العقول، ما قد يقتضينا معالجة هذه المؤثّرات الضاغطة بمختلف أساليب التوعية التي تضع القضية في نصابها وحجمها الطبيعيّ، وذلك من جهة تخفيف الضغط على مواقفهم من خلال ذلك.

وقد لا يكون النبي موسى(ع) في موقف المنفعل الذي يريد أن يعالج المسألة بالدعاء المتحرك من موقع المأزق الذي يحيط به، بل كانت القضية أن التجارب قد استنفدت معهم، وأنهم يقفون في الطريق ليمنعوا الرسالة من أن تتحرك في خط الدعوة، وفي مجال تحقيق الأهداف، وليعطلوا حركة الحرية في نفوس المستضعفين من خلال دعوة النبي، وذلك بالضغوط المباشرة تارةً، وبالضغوط غير المباشرة أخرى، فلم يكن هناك مجال إلا بالقضاء عليهم، لتبقى الساحة خاليةً من الحواجز الصعبة التي تمنع الانطلاق، لئلا تنسحق أمام حالات الشلل والجمود الذي أريد لها أن تنسحق أمامها. وهكذا كان، فقد أوحى الله إلى موسى وهارون بما يريد {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} وسيحل العذاب بفرعون وجماعته، فاستقيما في موقع القوّة الجديد الذي ستحصلان عليه بعد إهلاك الطاغوت، وتابعا المسيرة في الخط الذي أراد الله لكما أن تسيرا عليه، لأن الإنسان قد يضعف أمام السلطة، فيترك ما كان يدعو إليه، ويستسلم للدوافع الذاتية والمؤثرات الشيطانية إذا لم ينفتح على الله في كل الأحوال، {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} طريق الحق، ولا يهتدون إلى غايات الخير والعدل والإيمان.

وذلك هو أسلوب التربية القرآنية، الذي يوحي بأن من الضروري متابعة الإيحاء للدعاة إلى الله بالحذر من الانحراف، بعيداً عن أيّة حالةٍ ذاتيةٍ، مما يمكن للناس أن يجعلوه مانعاً عن توجيه النصح، من عظمة الشخصية، وحجم الموقع، لأن المسألة لا تتصل بمستوى الذات، بل ترتبط بضخامة التحديات التي قد تزلزل الإنسان، وقد تهوي به إلى مكانٍ سحيقٍ. ولا نريد في هذا المجال أن نتحدث عن قصة العصمة التي تمنع النبي عن الانحراف مما يمنع من توجيه النصح إليه في هذا الاتجاه، لأننا نحسب أن تأديب الله لرسله، هو أحد المؤثرات في العصمة التي تمنحهم مناعة الموقف وقوّة الالتزام. وقد لا تفوتنا الملاحظة في أسلوب القرآن، الذي يعبِّر دائماً عن الكافرين والظالمين بأنهم لا يعلمون، ما يعني أن مشكلة هؤلاء أنهم لم ينفتحوا على الحقيقة، من موقع جهل، أو من موقع غفلةٍ وتمرّدٍ، فقد لا يعرفون الحق مباشرة، وقد لا يعرفون نتائج البعد عنه عندما يختار الإنسان لنفسه ذلك.

* * *

ملاحقة فرعون لبني إسرائيل

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائيلَ الْبَحْرَ} في ما هيّأه الله لهم من وسائل الخلاص من ظلم فرعون بطريق المعجزة {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} من دون حق، من موقع العدوان، ورأى أن الطريق ممهدةٌ أمامه لملاحقتهم، وظنّ أن الله يلطف به كما لطف بهم، ولكن جاءه الموج من كل مكان {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} استعرض كل حياته، بكل ما فيها من كفرٍ وبغي وطغيان وعدوان على الناس، وانفتحت له آفاق الإيمان فجأة، وانجلت عن عينيه وعن قلبه غشاوة الضلال.

* * *

إعلان فرعون إيمانه

{قَالَ آمَنتُ} في لهجةٍ خشوعٍ وابتهالٍ {أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنو إِسْرائِيلَ} فهو الإِله الحق، وكل ما عداه خرافةٌ وتضليل {وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين يسلمون أمرهم إلى الله ويطيعونه في ما يأمر به وينهى عنه {الآَنَ} تقول آمنت وتبت وأسلمت، في الوقت الذي لا تملك فيه أيّة قدرةٍ أو سلطةٍ أو اختيار {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} عندما كنت تملك ما حولك ومن حولك، فلم تكفر بالإيمان بل كنت تحاربه وتضطهد من يتبعه {وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين أفسدوا حياتهم بالكفر والعصيان، وأفسدوا حياة الناس بالظلم والعدوان.

* * *

العبرة من نجاه بدن فرعون

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} وعبرةً لمن اعتبر، وعظةً لمن اتعظ، وليعرف الناس أن الامتداد في الضلال والمعصية لا يبلغ المدى الذي يريده أصحابه، بل يقف في نهاية المطاف عند حدٍّ لا يتعداه {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنَا لَغَافِلُونَ} لأنهم لم ينفتحوا على المجالات التي توحي إليهم بالتأمل والتفكير وتقودهم إلى الحوار ليواجهوا الحقيقة من أقرب طريق.. وذهب فرعون وقومه.

* * *

اختلاف بني إسرائيل

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي منزل صدق، المراد به المنزل الصالح الجيّد، في ما يشتمل عليه من خير وخصبٍ وبركةٍ. وقد نقل عن العرب أنهم يضيفون الصدق إلى المكان ويقصدون به الصلاح، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} في ما أغدقه الله عليهم من بركات الأرض والسماء، ليشكروه وليوحّدوا موقفهم على أساس كلمته، المنطلقة من وحيه الذي أنزله على موسى في التوراة، ولكنهم تمرّدوا واختلفوا فيما بينهم على كثير من الأشياء {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءهُمُ الْعِلْمُ} الذي يوضّح لهم الحقيقة في ما اختلفوا فيه، فلم يتركهم لجهلهم، بل أراد أن يبين لهم كل شيء في التوراة. ولكن القضية عندهم لم تكن مشكلة مصادر المعرفة، بل الروحية التي تربطهم بآفاقها، فلم يعيشوا مسؤولية العلم في الإذعان للحق الذي يكشفه، بل استسلموا لأنانياتهم التي تمنعهم من الرضوخ للآخرين في ما يتحركون به من أسباب المعرفة {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وذلك عندما يقوم الناس لربّ العالمين، ليواجهوا الحجة في ما اعتقدوه وفي ما لم يعتقدوه، وما اختلفوا فيه، فيقف كل إنسان أمام النتائج السلبية والإيجابيّة التي تنعكس على موقفه، من دون لفٍّ أو دورانٍ، لأن الموقف هناك هو موقف الصدق الذي لا يحتمل كذباً ولا رياءً ولا نفاقاً ولا هروباً من المسؤولية.