من الآية 104 الى الآية 107
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ* وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(104ـ107).
* * *
معاني المفردات
{حَنِيفًا}: الحنف: هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة.
{يَمْسَسْكَ}: المسّ يقال في ما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذىً.
* * *
التعبير عن الموقف بأسلوب المناجاة
ويستمر المشركون في ضلالهم وعنادهم وكفرهم، وينتقل النبيّ من خط الدعوة المباشرة إلى أسلوب المواجهة بطريقٍ غير مباشر، وذلك من خلال التعبير عن موقفه الحاسم الواضح مقابل موقفهم الرافض للإيمان من خلال الشك، كما يظهرون، أو من خلال العناد كما يبطنون. فقد يكون أسلوب المناجاة الذاتية في التعبير عن الموقف الحاسم في خطوطه العامة، أكثر فاعليّةً من أسلوب الحوار المتبادل الذي يفرض على الإنسان الكثير من أدوات المواجهة التي تتحدى الجانب الذاتي في الإنسان، بينما يتمثل هذا الأسلوب في عرض الفكرة، بعيداً عن ردّ الفعل تجاه الآخرين، ما يعطي له شيئاً من القوّة، وكثيراً من الحريّة في الحديث عن التفاصيل.
* * *
رفض عبادة غير الله
{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} فلم تقتنعوا بما عرضته عليكم من حججٍ وبيّنات، فهذا شأنكم في ما تتخذون من مواقف لا بد لكم من أن تتحملوا مسؤوليتها، أمّا أنا، فعلى بيّنةٍ من أمري في ما أعتقده وأدعو له، من خلال وضوح الرؤية للقضايا لديّ، وقوّة الحجة عندي، ولذلك فإني أرفض كل ما اتخذتموه من آلهةٍ {فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من أصنام وأشخاص وموجودات كونيّة، لأنكم لا ترتكزون على أساسٍ من علمٍ ومعرفةٍ، كما أنكم لا تملكون أيّة قوّةٍ ذاتيّة في ما يتصل بحياة الأشخاص والأشياء {وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} ويملك أمر الحياة والموت، فهو الذي يسيطر على الكون كله، وهو الذي يجب أن يعبده الناس وحده، لأنه هو الذي يملك كل شيء، ولا يملك غيره شيئاً إلا من خلال ملكه.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك من خلال إشراقة الحياة في قلبي وروحي وفكري التي تطل بي على معرفة الله في أرحب أفقٍ، وأوسع طريق، وأعمق مجال. وبذلك يكون الداعية هنا، منسجماً مع دعوته من موقع الصدق والإيمان، قبل أن يدعو الآخرين إلى الانسجام معها من مواقع التصديق والاقتناع، فيكون قدوةً في حركة الإيمان في الفكر والروح، كما هو قدوةٌ في حركة الممارسة العملية في الحياة، فيلتقي الناس معه في إيمانه، كما يلتقون معه في حياته المنطلقة في شخصيته.
* * *
إقامة الوجه للدين الحنيف
وهنا يتحرك الالتفات في الحديث، فينتهي دور المتكلم الذي يتحدث عن معاناته الذاتية في مسألة العبادة والإيمان من قاعدة الرفض لعبادة الآخرين وإيمانهم، ويبدأ دور السامع الذي يقف في موقف المؤمن الخاضع الذي يتلقى التعليمات والأوامر الصادرة من الله في خطّ السير ومنهج الحركة. ويتحول النبي هنا إلى عبدٍ لله ينصت بخشوع، ليتحرك ـ من خلال الطاعة ـ بخضوع، ليؤكد التوحيد المطلق في حياته ـ كل حياته ـ من خلال خط الاستقامة الذي يرتبط بالحقيقة في البداية، ليتصل بها في نقطة النهاية، بعيداً عن كل ميلٍ أو انحراف أو هروب.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} إنه يمثل نهج الحياة الواحد، الذي لا نهج غيره، في ما يمثل من مصلحة الإنسان في الحياة. وبذلك كان الدين هو الهدف الذي ينبغي أن تتوجه إليه كل الوجوه في عملية تطلّعٍ والتفاتٍ، وتتحرك نحوه كل الخطى في عمليّة لقاء وتواصل، وتنطلق إليه كل الأفكار والمشاعر في عملية وعيٍ وانتماءٍ وتعاطف. ولهذا كان النداء الإلهي يؤكد على إقامة الوجه للدين، بحيث تتصلب النظرة نحوه، فلا تبتعد عنه ولا تميل إلى غيره، ويتأكد الموقف معه. والوجه هنا كناية عن الذات والشخصية والكيان، ليتحقق التزام الإنسان كله، بالدين كله، بفكره ومفاهيمه وشريعته وأسلوبه في الحياة، بكل إخلاص، في ما يتعلق به، مع الميل عن كل شيء غيره {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين ينحرفون عن خط الاستقامة في العقيدة والعبادة والانتماء، فيلتزمون غيره في ذلك كله.
* * *
دعوة لنبذ الشرك
{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} ولا يملك أيّة قدرةٍ ذاتيةٍ في إدارة شؤونك في الخط السلبيّ أو الإِيجابي، ما يوحي بالعجز أمام قدرة الله المطلقة. وكيف يدعو الإنسان، في مواقع الحاجة إلى المعونة، إنساناً عاجزاً مثله، أو موجوداً لا يملك شيئاً من الحسّ والحياة، فكيف يملك أسرار القدرة في ذاته؟ إنه ليس إيحاءً بالارتباط بالله من خلال النفع والضرر، تماماً كما يقول للإنسان: لا ترتبط بفلان لأنه لا فائدة من الارتباط به لاستجلاب النفع أو دفع الضرر، بل هو إيحاءٌ بأن هؤلاء لا يملكون أساس الألوهية من خلال حركة القدرة في داخلهم، {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم بالارتباط بمواقع العجز والشلل، ويبتعدون عن خالق القوّة والقدرة، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} لأنه هو الذي يملك أمره عندما يرسله، كما يملك أمره عندما يريد الإمساك به أو ردّه عن أحد، {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} لأنه مصدر الخير في كل الأشياء، لكل الأشخاص، وهو المهيمن على ذلك كله، ولا يملك أحدٌ التدخل في ما يريده، بتعطيل ذلك، أو بردّه، فهو الذي يعطي الخير بحكمته وبرحمته.
{يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي تتحرك مغفرته من خلال رحمته، وتنطلق رحمته لتشمل كل المذنبين والخاطئين بسعة عفوه وغفرانه.
تفسير القرآن