المقدمة
سورة يوسف
مكية، وهي مائة وإحدى عشرة
جولة في آفاق السورة
...وهذه سورةٌ مميزةٌ تدور فيها قصة أسرة من أُسَر الأنبياء، فتجد فيها ما تجد في المجتمع الذي يحيط بها من ألوان التناقضات في الأخلاق والسلوك، وتحسّ معها بالوداعة الصافية، التي تصطدم بالتعقيد النفسي المليء بالحسد، وتلتقي عندها بالشخصية النبوية الهادئة التي تتحسس الخير في داخلها، وتحاول أن تنشر على من حولها معانيه، في مواجهة أفعال البشر التي تتعمّد الإساءة إلى الخير، لتشير لهم بأن الخير هو الأصل في الإنسان، وهكذا نستوحي منها، أنّ البيئة الخيّرة ليست السبب الوحيد لصنع الإنسان الخيّر، كما أن البيئة الشرّيرة، في المقابل، ليست السبب الوحيد لصنع الإنسان الشرّير، فيمكن للعوامل الأخرى أن تتدخل سلباً أو إيجاباً في صنع الشخصية الإنسانية مما يفرض على العاملين في خط التغيير ألاّ يستريحوا للجوّ الإيجابي الذي يحيط بالمجتمع، ويعتبروه ضمانةً ضد ظهور الاتجاه السلبي في الواقع، كما أن عليهم ألاّ ييأسوا من الأجواء السلبية، فيمتنعوا عن العمل في الاتجاه الإيجابي المضاد.
ونلاحظ من خلال شخصية النبي يوسف عليه السلام في هذه القصة، كيف يثبت الإنسان المؤمن الذي يعيش صفاء الإيمان ووداعته في مواقف الاهتزاز، على الرغم من الضغوط النفسية والمشاكل الداخلية التي تتحدى صبره وإيمانه وصلابته، أمام ما يلاقيه من تعسّفٍ واضطهادٍ، وما يواجهه من إغواءٍ وإغراءٍ، وذلك بلجوئه إلى الله في موقف الشدة، والاستعانة بإيمانه في موقع الاهتزاز، فيحصل على الثبات والتماسك والامتداد في الخط المستقيم.
ثم نلاحظ ـ من ناحية أخرى ـ كيف يتعهد الله عباده المؤمنين بالرعاية والعناية في حالات الشدّة، كما تعهّد يوسف فنقله من حالة إلى حالة، برفقٍ، ولطفٍ، وحنانٍ، حتى وصل به إلى ما يريده له من القوة في موقع السلطة الشاملة التي أباحت له تنفيذ حكم الله في المجتمع بكل حكمة واتزان، وكيف ساهم ذلك كله في التأثير على حالات الانحراف لدى إخوته، فرجعوا إلى الله وتابوا إليه... وخلاصة التجربة التي مرت بها هذه الأسرة تؤكد أنه من الممكن للإنسان أن يقوم من عثرته إذا توفرت له الظروف الملائمة. وتقدم لنا آيات السورة أكثر من فكرةٍ، بما تعكسه من الأجواء المشبعة بالإغراء، أو الأجواء الضاغطة بالبلاء والشدّة، وكيف يسقط بعض الناس أمام هذه التجربة إو تلك، وكيف ينجح آخرون بالامتحان، لتحافظ حركة الإنسان في كل مواقع التجربة الصعبة، على التنوع الذي يمليه ويحدد وجهته السلبية والإيجابية اتجاه الإنسان الفكري، إذا ما توفرت لذاك التوجه المناخ المناسب من إرادةٍ قويةٍ تمنع الانحراف، أو إرادة ضعيفة تؤكد الانحراف وتقويه، لذا على الإنسان المؤمن أن يكون واعياً لدوره الذي يريده الله له، فينتبه إلى ما حوله ومن حوله في عملية تأملٍ، ووعيٍ، وإرادة، وتأهبٍ للانطلاق.
ويبقى لنا أن نواجه كل التفاصيل في حركة آيات السورة.
تفسير القرآن