من الآية 4 الى الآية 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(4ـ6).
* * *
معاني المفردات
{رُؤيَاكَ}: الرؤيا: تصور المعنى في المنام على توهم الأبصار.
{كَيْدًا}: الكيد: ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموماً وممدوحاً، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر.
{يَجْتَبِيكَ}: الاجتباء: الاختيار.
* * *
يوسف يقص على أبيه رؤياه
... وجاء يوسف إلى أبيه، وكان أثيراً عنده حبيباً إليه، لجماله ووداعته وصفاء روحه، وجلس عنده يقص عليه رؤياه الغريبة التي أثارت في نفسه القلق لما تشتمل عليه من جوّ يوحي بالسموّ، ولكنه حافلٌ بالغموض، فأراد من أبيه الذي أكرمه الله بالنبوّة أن يفسّر له أسرار هذه الرؤيا، ليوضح له معالم المستقبل من خلالها، وربما كان يعتقد، أنها رؤيا صادقة فحاول أن يعرف طبيعتها، وربّما كان حائراً بين هذا النوع من الرؤيا الصادقة، أو الرؤيا الحالمة، فأحب أن يجلوَ كنهها، كأيّ إنسان في مثل عمره الذي كان يلتقي بأوائل الشباب.
* * *
الحدس النبوي
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ} يعقوب: {يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} من هذه الكواكب المتناثرة في السماء، {وَالشَّمسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} كما يسجد الناس للشخص العظيم تحيةً واحتراماً وخضوعاً. فما معنى ذلك؟ وما مداه؟ وكيف يمكن أن تسجد هذه المخلوقات الكونية العظيمة لبشرٍ مثلي؟! وما موقعي من ذلك كله؟!
ويستشرف يعقوب بحدسه النبويّ مستقبل ولده يوسف من خلال هذا الحلم العجيب، فيرى فيه شخصاً عظيماً يسمو على أهله بالمكانة والمنزلة، إلى مستوى يشعرون معه بأن عليهم أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع الملوك العظام، الذين كانت تقاليد ذلك العصر تفرض على الناس أن يقدموا لهم فروض الاحترام بطريقة السجود.
* * *
حسد الإخوة
على أن يعقوب كان يعرف أن أولاده الآخرين يحسدون يوسف على ما يتميز به عنهم من جمالٍ وذكاءٍ ووداعةٍ وصفاءٍ، وعلى ما له من المنزلة عند أبيه، كنتيجة لما يملكه من هذه الصفات وغيرها التي أهّلته للمعاملة المميّزة، وكان يخشى على يوسف منهم، لأن العقدة التي كانوا يشعرون بها تجاهه قد توحي إليهم بالتآمر عليه، والتخلّص منه إذا تحدث إليهم عن رؤياه، وفهموا منها مستقبله الكبير الذي قد يقفون فيه موقف الخاضع الحاسد له عندما يصبح غداً في موقع رفيع يفوقهم، ولأن الحسد يدفع أصحابه إلى الكيد للمحسود وأذيته بشكل مباشر، وليس عبر تسليط عين الحسد كما يعتقد الناس عموماً. فأحبّ يعقوب تحذير يوسف من أن يقصّ رؤياه عليهم في ما أوحاه له من مستقبل باهر ينتظره، يجعله في موقع الكيد من إخوته.
* * *
عقدة الشيطان
{قَالَ يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} لأنها توحي لهم بتفوقك عليهم في مستقبل عمرك، فقد يستوحون منها ما استوحيتُ، من أنهم هم الكواكب التي تسجد لك، {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} ، فيسعون إلى هلاكك، ليمنعوا ما ينتظرك من مستقبل مشرق، ظناً منهم أنهم يستطيعون تغيير ما يريد الله له أن يكون، وهذا ما تسوّله لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء الغارقة في ضباب الأوهام والأحلام الكاذبة،والواقعة تحت تأثير أفكار الشرّ والجريمة التي يبثها فيهم الشيطان، من خلال العقدة المتأصّلة بالذات التي يتعامل معها بطريقة تزيدها تعقيداً، ويزيد بالتالي في ضلال الإنسان الذي يستسلم له فيحركه في اتجاه معصية الله، ليفسد عليه حياته، ومصيره، فيقوده إلى عذاب الله في الآخرة، وتلك هي العقدة الشيطانية التي بدأت بخروجه من دائرة رحمة الله، لامتناعه من السجود للإنسان الأول المتمثل بآدم، فكانت عقدته الكبيرة، أن يجرّ ذريته إلى النار ليكون مصيرهم ومصيره واحداً، على غرار ما يفعله الأعداء مع أعدائهم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} في مقاصده ووسائله.
* * *
يوسف وبداية المسيرة
وهكذا بدأت المسيرة التي أرادها الله ليوسف على طريق النموّ الفكريّ والروحيّ الذي يمهّد له السير في طريق الأنبياء الصالحين الذين يربّيهم الله على خطّ هداه، من خلال المعاناة الجسديّة والروحية التي يواجهون فيها عملية تدريبٍ يوميّةٍ، تقوّي إرادتهم، وتوسّع آفاقهم، وتفتح لهم نوافذ التفكير على أكثر من جانبٍ من جوانب الغيب والحياة. وقد كانت رؤيا يوسف بداية طيبةً له، تفتح له باب التفكير في آفاق هذه الرؤية الواقعية، وفي كيفية النفاذ إلى المواقع المميّزة في حياة الناس، كما سنرى، في ما يأتي من قصة يوسف، وهذا ما أراد الله أن يوحي به إلى يوسف في بداية أمره، في ما خاطبه به، وفي تنمية إحساسه الداخلي في ما ألهمه الله منه، أو في إخبار أبيه له، أو في ما يقترب من ذلك.
{وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} فيمن يجتبيه من عباده، ويصطفيه منهم، {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} وتفسيرها في ما يستشرف به الناس أمور المستقبل من خلال أحلامهم، {وَيُتمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} بما يغمرهم به من لطفه ورحمته، وبما يفتحه لهم من أبواب الخير، أو ينزل عليهم من وحيه ورسالته، أو يخرجهم منه من ضيق وعسر، {كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} اللذين خصهما الله بكرامة الرسالة والقرب إليه، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهو الذي يعلم الغيب كله، لأنه هو الذي خلق المستقبل كله، وهو الذي يجري الأمور كلها، على وفق حكمته في العطاء للعباد والمنع عنهم، في المجالات المادية والمعنوية.
تفسير القرآن