من الآية 7 الى الآية 10
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِّلسَّآئِلِينَ* إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ* قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}(7ـ10).
* * *
معاني المفردات
{آياتٌ}: الآية: العلامة والعبرة.
{عُصْبَةٌ}: العصبة: الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض.
{غَيَابَةِ الْجُبِّ}: غور البئر وما غاب منه عن أعين الناظر، وكل ما غيّب شيئاً وستره فهو غيابة.
{السَّيَّارَةِ}: جمع سيار، وهو المسافر.
* * *
المعاناة الصعبة
وتبدأ القصة في حياة يوسف من موقع المعاناة الصعبة التي تجعله يعيش الكثير من الآلام، ويقع في العديد من المشاكل، ويصطدم في أكثر من موقف من مواقف الصراع النفسي على مستوى أخلاقه ومبادئه، ويدخل في كثير من مجالات الدعوة إلى الله، وينفتح على أجواء جديدة لا عهد له بها من قبل. ولكن النتائج الأخيرة تفتح له أبواب الخير بأوسع مجالاتها، وكان لإخوته دور شرّير، حاولوا فيه، الدفع به إلى الهلاك، وقد عاشوا حياتهم في جو بعيد عن الإيمان والأخلاق، ولما ضاقت بهم سبل الحياة لجأوا إلى أخيهم، وانتهى الأمر بهم للخضوع له، فانتصر الخير على الشر، والوداعة على التعقيد، والمحبّة على الحقد، انتصر يوسف في روحه ورسالته وإخلاصه لله.
والآيات الواردة في السورة تبعث على التفكير، وتثير في النفس الكثير من المشاعر الروحية الطاهرة التي تدفع الإنسان إلى الرجوع إلى الله، والثقة به، في أشد حالات التحدي، وفي أقسى ألوان البلاء، فلا مجال لليأس، ولا موقع للانهيار والسقوط، وهذا ما أراد الله لنا أن نتمثله في هذه القصة الحافلة بألوان التعقيد في العلاقات الإنسانية بين الإخوة، والمليئة بالمشاعر الخانقة.
* * *
أخذ العبرة
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِّلسَّآئِلِينَ} الذين يريدون معرفة حقائق أمور الحياة، والاستفادة من تجارب الآخرين التي شاهدوها، أو سمعوها، ليضيفوا ذلك إلى ما يملكونه من تجارب ذاتية، ليتسع لهم جانب المعرفة بحركة المستقبل في حياتهم العامة والخاصة، وفي هذا إيحاء بالجانب الفكري للقصة، الذي يريد القرآن توجيه الإنسان إليه لأخذ العبرة منه، وعدم الاكتفاء بالجانب التفصيلي للأحداث بما تخفيه من لهو فكري وتسلية ذاتية، فالهدف الاستفادة من التفاعل الإنساني مع تجربة الآخرين لتحديد الخطوات العملية المستقبلية وما يصلح للحياة، أو ما لا يصلح لها، وهكذا تبدأ القصة في حياة يوسف وإخوته، بآلام يعانيها يوسف وتحدد ما يستقبله من أحداث.
* * *
المعيار الخاطىء
{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، وهذا ما أثار في نفوسهم الحقد، فقد كانوا عشرةً من أمّ، وكان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى، وربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميّزة لهما، كنتيجةٍ لبعض الخصائص الروحية أو الأخلاقية التي يتمتعان بها، ولصغر سنهما الذي يجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفي من جهة، وما يستثيره ذاك السن من عاطفةٍ حميمةٍ، تجعل الكبير يهفو إلى الصغير من جهة أخرى، ولكن الكبار ـ عادةً ـ لا يفهمون ذلك، لا سيما مع اختلاف الأمّ الذي يبعث على التعقيد في نفوس الأولاد تبعاً للتعقيد بين الأمهات، وكان هؤلاء يفكرون بالقضية وفق معيار التفوق العددي الذي يدفع إلى ترجيحهم على الأقل، أو انطلاقاً مما يوحيه العدد الكبير من قوة تتيح لهم تصحيح ما يعتبرونه خطأ في تمييز أبيهم في مشاعره الأبوية تجاه أولاده، الأمر الذي عبروا عنه بقولهم الذي أشار إليه الله في قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلال مُّبِينٍ} مما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصية النبي في أبيهم، وهو الذي لا ينطلق في سلوكه من عقدة ذاتية، بل من حالة عقلانيّة روحيّة لا تبتعد عن خط الرسالة في السلوك الذاتي، أو في السلوك العام، لأن دور النبيّ أن يكون القدوة في كل شيءٍ، لأنه يمثل الرسالة في حياته كما يمثلها في كلماته، من خلال التكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرسالة والرسول.
وقد يحدث ذلك للعديد من الأبناء الذين يستسلمون للعلاقة الطبيعية بين الأب وولده التي قد تتحرك في تفاصيل الحياة في أجواء التبدُّل الطبيعي في البيت العائليّ، فلا يشعرون بالهيبة تجاه الأب التي يشعر بها الآخرون. وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثُّر بالجوانب الآخرى من شخصية الأب، أو عدم الشعور بقدسيتها وعظمتها، فينعكس ذلك على نظرتهم إليه في مشاعره وسلوكه، بعيداً عن التعمُّق في طبيعة ذلك كله.
* * *
الخطة الشريرة
وبدأت الخطة الشريرة تتفاعل في تفكيرهم، وقرروا التخلص منه بآية طريقة ممكنة، لأن ذلك هو السبيل إلى أن يستقلوا بعاطفة أبيهم عندما ينسى يوسف ويتقرب من جديد إليهم، لملء الفراغ العاطفي الأبوي لديه، وهكذا طرحوا المسألة على بعضهم البعض.
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} ليضيع في التيه، أو ليموت في الجب، أو لتأكله السباع، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فلا يجد أمامه غيركم فيتجه بكل عاطفته إليكم. إنها الفكرة المسيطرة على أذهان الجميع، بحيث كان كل واحد يقولها لإخوته، ونلاحظ أنهم لم يتحدثوا عن أخ يوسف، ولم يفكروا بالتخلص منه، لانصراف العاطفة الجياشة تجاه يوسف ذي الميزات الجسدية والروحية، أما أخوه، فقد كان موقعه من حديثهم كونه الأخ الشقيق ليوسف، ومن المعلوم أن يوسف لم يكن شقيقهم من ناحية الأم، التي اعتبروها مسؤولةً عن هذا العطف غير العادي من أبيهم ليوسف، وهكذا كانت الفكرة الشريرة خاضعةً للحالة النفسية المعقدة التي نفذ الوسواس الشيطاني منها إليهم، ليوحي لهم بارتكاب الجريمة أوّلاً، ثم بالتوبة، وهذا هو دأب الأسلوب الشيطاني في مواجهة لحظة الخوف الإنساني من الله عندما يهم الإنسان بارتكاب ما يخالف أمره، إذ يعجل المعصية للإنسان، ويمنيه بالتوبة، ثم يدفعه إلى التسويف فيها بعد ذلك، وهكذا قال بعضهم الآخر، إن عليكم أن تقوموا بهذه الجريمة، وتتوبوا إلى الله بعدها، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} في ما تقومون به من أعمال صالحة، وعبادات خالصة.
وربّما كان بعضهم يكنّ عاطفة لأخيه، ولكن بالمستوى الذي يبعد عنه فكرة الموت بيد إخوته، فاقترح اقتراحاً معيناً في هذا الاتجاه، {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي في أعماق البئر التي لا تغرق من يُقذف فيها، لقلة ما تحتويه من الماء، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} من القوافل السائرة على طريق البئر، فيكتشفونه عندما يريدون الاستقاء منها، فيأخذونه ويبيعونه، فيضيع في البلاد النائية، ويفقد بالعبودية حرية الحركة. فهذا هو الحل الذي يحقق الخلاص من يوسف، ويمنعنا من القيام بجريمة قتله، فابدأوا بالتخطيط العملي لذلك، {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ومصرّين على تصميمكم في إبعاد يوسف عن أنظار أبيه.
تفسير القرآن