تفسير القرآن
يوسف / من الآية 11 إلى الآية 18

 من الآية 11 الى الآية 18
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ* قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ* قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ* فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ* قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}(11ـ18).

* * *

معاني المفردات

{يَرْتَعْ}: أي يتنعم.

{نَسْتَبِقُ}: الاستباق: افتعال من السبق، ومنه المسابقة، وهو على ثلاثة أوجه: سباق بالرمي، وسباق على الخيل والإبل، وعلى الأقدام.

{مَتَاعِنَا}: المتاع ما يحمله المسافر من زاد ولباس.

{سَوَّلَتْ} التّسويل: تزيين النفس ما ليس بحسن، وقيل: هو تقدير معنى في النفس على الطمع.

* * *

تنفيذ المؤامرة

واتفقوا على تنفيذ خطة المؤامرة، وجاءوا إلى أبيهم في أسلوب استعطاف يوحي بالمحبة ليوسف، وينكر على أبيهم شكّه فيهم وعدم ائتمانه لهم عليه، الأمر الذي يظهر عدم سماحه في ما مضى لهم باصطحابه معهم في مشاريع الخروج للبرّ وللبساتين، للهو واللعب، بهدف الترويح عن النفس في الهواء الطلق. {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}، ونحن إخوته الذين يُكِّنون له كل محبة الأخ لأخيه، ويحبون له ما يحبون لأنفسهم من الراحة والانطلاق، تماماً كما يشعر أحدنا بالنسبة لبقيّة إخوانه،{وإنا له لناصحون} في ما ينصح به الأخ أخاه. إننا لا نجد لموقفك السلبي مراراً سوى الغلوّ في العاطفة الأبوية والتعلُّق به بطريقة تكاد تخنقه وتمنع عنه التحرك في الهواء الطلق، وأنت تشكّ في كل شيء يتحرك من حوله، حتى لنشعر أنك تتهمنا بالعمل على إيذائه والتآمر عليه.

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} لأن من حق الشاب أن يمارس مع الشباب اللهو واللعب والانطلاق في الهواء الطلق، لتتفتح روحه، وتصفو أفكاره، وترتاح مشاعره، لأن لكل مرحلة من مراحل العمر حقها في التنفس والانطلاق... وكيف يمكن أن يظل معك محبوساً في دائرة الالتزامات الاجتماعية التي يلتزم بها الشيوخ في تقاليدهم وأوضاعهم وعلاقاتهم الاجتماعية!؟ إن هذا هو السجن بعينه. إننا نريد منك أن تحرّره من ذلك كله، وأن تثق بنا كما يثق الأب بأولاده الذين عاشوا معه الحب كله، والإخلاص كله، ولا تخف عليه من أي سوء فإنا سنحميه بما نحمي به أنفسنا، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من كل عدوان بشريٍّ أو حيوانيّ.

ولكن أباهم صرف الحديث إلى جانبٍ آخر، فلم يؤكد اتهامه لهم بالعداوة له، بل أثار أمامهم مسألةً أخرى، وهي خوفه عليه من الذئب الذي قد يفترسه عند غفلة إخوته عنه في لهوهم ولعبهم، {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} لأن طبيعة أجواء اللهو واللعب، توحي بالغفلة عن كثير من الأشياء المهمّة، للحالة المحمومة التي تتحكم بالأعصاب وبالمواقف. وجاء في بعض الروايات أنَّ يعقوب كان يريد أن يلقّنهم الحجة في ما يعتذرون به بعد تنفيذ خطتهم، في ما أخبره الله به، الأمر الذي لم يكن وارداً عندهم في تفكيرهم حول الموضوع، والذي لم يثبت عندنا، وإن كان ممكناً، وقد أجابوا أباهم بأن هذا الخوف لا مجال له أمام عددهم الكبير، فإذا غفل عنه واحد أو أكثر منهم، فكيف يغفل عنه الآخرون؟

وكانت المسألة تمثّل التحدي الكبير لهم في إطار ما يريدون الحصول عليه من ثقة أبيهم حيال أغلى الأشياء عنده، ومن ثقة الناس بهم في حفظ الأمانة الأخوية والإخلاص لها، والاهتمام بها في أعلى درجات الاهتمام {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} في العدد والقوة، {إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ} وأي خسارة أعظم من خسارة الإنسان ثقة الناس به، في أكثر الأشياء اتّصالاً بالجانب الحميم من حياته، وهذا ما أراد ما أن يؤكدهُ في موقفهم الاستعراضي الذي يحاولون من خلاله الإيحاء لأبيهم بأنهم في مستوى المسؤولية وفي أعلى درجات الوعي واليقظة والقوة والإخلاص، لأن المسألة تمثل حالةً متّصلةً بالذات، في تقييمهم الشخصي والروحي.

ووافق يعقوب على ما طلبوه منه، وأرسل يوسف معهم، فنجحوا في الخطوة الأولى من خطتهم المرسومة. {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} واتفقوا على تنفيذ المؤامرة، فتعاونوا على شدّ وثاقه، في فظاظةٍ وغلظةٍ لم تأبه لتوسلات يوسف المستغيثة بوداعة، بحثاً عن أملٍ في الانفلات منهم، ولكن عبثاً يحاول، فأنزلوه إلى أعماق البئر وتركوه هناك، وتمّ لهم ما أرادوه، وقد أراد الله ليعقوب أن يوحي إليهم بما فعلوه بالرمز والإشارة في أسلوب من الاتهام الخفيّ الذي يحسّ به المتهم من خلال كلمةٍ أو همسةٍ أو نظرةٍ، {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بطريقةٍ خفيّةٍ موحيةٍ، وهذا ما فعله يعقوب في ما نراه من ختام هذا الفصل.

* * *

دموع التماسيح

{وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} ويعلو الصراخ بشكل يوحي بالفاجعة في عملية إثارة الشعور بالذنب على طريقة دموع التماسيح التي لا تتحرك من الأعماق، بل تبقى في دائرة الشكل، {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} في سباق عنيف يغفل الإنسان فيه عن نفسه وعمن حوله، ولم يكن من الممكن ليوسف أن يستبق معنا لصغر سنه وضعف جسمه، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} ليقوم بحراسته، وابتعدنا عنه في تراكضنا نحو الهدف، فاستغل الذئب هذه الفرصة، فلم يجد عنده أحداً، ولم يملك أن يدافع عن نفسه، {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وتلك هي الحقيقة الصارخة التي عشناها بكل ما يختزنه الإنسان من قساوة الألم، وعنف الحزن، وفداحة الخسارة... ولا نملك ما نؤكد به لك هذه الحقيقة {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} لأن الشك يغلب جانب ثقتك بنا، مع أن الأمر محتمل جداً، لكثرة ما تقع فيه أمثال هذه الحوادث، وقد كنت أوّل من أثار المسألة أمامنا على أساس الاحتمال الذي استبعدناه واستقربته، ولكن، ماذا نقول لك أمام حالة الشك التي تنطق بها كل لمحةٍ في عينيك، وكل نبضة في وجهك، وما الطريق التي نرفع فيها عن أنفسنا الشبهة، ونؤكد لك الحقيقة؟.

إن من المؤسف أن تفقد ثقتك بنا وتتهمنا بما لا دخل لنا به {وَلوْ كُنَّا صَادِقِينَ} في ما نخبرك به. ولكن ما القيمة في أن يكون الإنسان صادقاً، وهو لا يملك الحجة القاطعة على صدقه؟.

* * *

الصبر أمام الفاجعة

وكانوا قد نزعوا عن يوسف قميصه، ولم يمزّقوه كما يفعل الذئب عند أكل الفريسة مما يتنافى مع دعواهم ولطخوه بدم كَذِبٍ، {وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} كشاهد على دعواهم، ولكن يعقوب لم يقتنع بذلك، لا سيما بعد أن أوحى إليه الله بما عملوه، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} غير هذا الذي تدّعونه، ولن أدخل معكم في التفاصيل، لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسه عن الموضوع، فلم يأت الوقت المناسب لذلك، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصميم، {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فهو الذي يعين عبده على مواجهة الفواجع والكوارث بالصبر والتسليم والثقة بما عند الله من آفاق الأمل ووسائل الفرج، وهو الذي يكشف الحقيقة التي عملتم على إخفائها، وهو الذي يهيىء لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النتائج الطيبة التي تحل المشكلة على أفضل وجه.