من الآية 19 الى الآية 21
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ* وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ* وَقَالَ الَّذي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(19ـ21).
* * *
معاني المفردات
{وَارِدَهُمْ}: الوارد: هو الذي يتقدم القوم ليستقي لهم.
{دَلْوَهُ}: الدلو: مؤنث، وقد يذكّر، وأدلى دلوه، أرسلها في البئر.
{يا بُشْرَى}: كلمة تقال عند البشارة، مثل: يا عجباً عند العجب.
{وَأَسَرُّوهُ}: أخفوه.
{بِضَاعَةً}: سلعة ومكسباً.
{وَشَرَوْهُ}: باعوه.
{بِثَمَنٍ بَخْسٍ}: البخس: النقص من الحق.
{مَثْوَاهُ}: الثواء: الإقامة، والمثوى: موضع الإقامة، والمراد بأكرمي مثواه: أحسني معاملته.
{مَكَّنَّا}: مكّنا له في الأرض: جعلنا له مكانة فيها.
* * *
سوق النخاسة والثمن البخس
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} مارّةٌ على طريق البئر الذي كان فيه يوسف، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يرد مواقع الماء فيطلبه لقومه، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} في البئر وأخرجه، فإذا به أمام المفاجأة السارّة، فقد كان ينتظر خروج الدلو بالماء، فإذا به يخرج بغلام جميل الصورة صغير السنّ، هو يوسف الذي تعلق بالدلو عندما أنزله صاحبه إلى البئر للاستقاء به، {قَالَ يا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ} فالتفت إلى قومه ليبشرهم بالربح الذي يمكن أن يحصلوا عليه إذا ما باعوا الغلام الذي لقيه في البئر في سوق النخاسة.{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} فقد أخفوه لديهم لأنهم خافوا أن يبصره أهله فيطالبونهم به، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فهو المطّلع على السرّ وأخفى، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، وهو الذي أراد ليوسف أن يسير في هذا الاتجاه ليصل إلى النتائج الطيبة في نهاية المطاف، فإذا كانوا قد أخفوه عن الناس فلا يمكن أن يخفوه عن الله الذي يحيط بهم من كل جهة ويشمل يوسف بكل رعايته.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَهِمَ مَعْدُودَةٍ} والشراء هنا بمعنى البيع، فقد باعوه بثمن زهيد بدراهم محدودة، يمكن معرفتها بالعدد لقلتها، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ} لأنهم أرادوا التخلص منه بسرعة، والحصول على ثمنه بأيّ مقدار كان، حذراً من أن يكتشفهم أهله ويأخذوه منهم قبل أن يبيعوه ويقبضوا ثمنه. والظاهر أن الضمير راجع إلى القوم الذين أخرجوه من البئر وأسرّوه بضاعةً لأن السياق يوحي بذلك، ولا يُلتفت إلى احتمال أن إخوة ليوسف هم الذين باعوه، بعد أن اكتشفوا إخراج السيارة له، فادّعوا أنه عبدهم فباعوه منهم، لأن هذا خلاف الظاهر.
* * *
بدء التمكين
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} فقد أعجبه هذا الغلام، ونفذ إلى قلبه، بحسنه ووداعته وصفاته الروحية والأخلاقية، مما قد لا يجتمع في العبيد الذين يعرضهم النخاسون في سوق النخاسة، فأراد من امرأته ألاّ تعامله بالشدّة والقسوة التي كان يعامل بها العبيد، بل أراد معاملته باللطف والإكرام، كإنسان يستحق الإعزاز والاحترام، لينتفع به، ويعتمد عليه في الأمور الخاصة، ويكون موضع سرّه يأتمنه على خصوصيات البيت وأسراره، أو يتبناه، لأنه كان عقيماً لا ولد له، وهذا ما أوحى به إلى امرأته: {عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًاِ}.
وهذا ما أراد الله أن يهيئه ليوسف من وضعيّةٍ تمكنه من السير في اتجاه تقوية مركزه ودعم مكانته، لا سيما بعد أن يتجاوز بنجاح الظروف المثيرة والأحداث الصعبة، مما أهلّه لفرصة الاعتماد عليه في تفسير الحلم الكبير للملك، لأن الله قد ألهمه، تأويل الأحاديث بطريقةٍ تسمح له جلاء الكثير من غوامضها.
{وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْض} فجعلناه في الموقع الذي يمكنه من بلوغ المنزلة الكبيرة، {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} لنهيىء له المدخل الطبيعي للنفاذ إلى ذلك المجتمع الكبير المعقّد، الذي لا يسمح لأحد بدخوله إلا من باب الامتيازات الخاصة التي يملكونها، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} في ما يريد أن ينفّذه من مشيئته وإرادته في خلقه، فلا رادّ لمشيئته في جميع الأمور، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فلا يعرفون علاقة كل شيء بالله لأن الأسباب مهما تعددت وتنوّعت، فإن أمرها ينتهي إليه، فهو القادر على تغييرها من حال إلى حال، وتوجيهها بالاتجاه الذي يريده، وهو أمر لا يلتفت إليه الناس عند تقدير عواقب الأمور.
تفسير القرآن