تفسير القرآن
يوسف / من الآية 22 إلى الآية 29

 من الآية 22 الى الآية 29
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزي الْمُحْسِنِينَ* وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ* وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِي رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}(22ـ29).

* * *

معاني المفردات

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}: استكمل قوته جسماً وعقلاً.

{وَرَاوَدَتْهُ}: المراودة: المطالبة بأمر بالرفق واللين.

{وَغَلَّقَتِ}: التغليق: إطباق الباب بما يعسر فتحه.

{هَيْتَ}: أقبل أو أسرع.

{هَمَّتْ}: الهم: العزم على الفعل.

{وَقَدَّتْ}: القدّ: شق الشيء طولاً.

{وَأَلْفَيَا}: وجدا.

* * *

يوسف يؤتى حكماً وعلماً

... وعاش يوسف، لا كما يعيش من هم في سنّه من الشباب حياة اللهو والعبث، بل عاش حياة فكرٍ وتأمّل وعلم، ودراسةٍ واقعيةٍ للساحة التي تحيط به لما تقتضيه الحكمة من معايشة للواقع، وفهمٍ له، وملاحقةٍ لخصوصيات التجارب المختلفة كي يصدر الحكم على الأشياء من قاعدة الوعي العميق لطبيعتها وطبيعة انطلاقها وحركتها، وقد وهبه الله من فضله، ما يكفل وصوله إلى الغايات التي يريدها من حركة حياته في خط رسالته وتدبيره، كونه أحسن النيّة، وصدق العمل، وسار في الطريق المستقيم.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} فأصبح من أولي الحكم الذين يقصدون للحكم من موقعٍ فكريٍّ عميقٍ واسعٍ، وعلمٍ غزيرٍ شاملٍ، جزاءً لصبره وإحسانه، لما يمثله الصبر في حياة الإنسان من تعميقٍ للفكر وتوسيعٍ له، أمام مصاعب الحياة ومشاكلها التي لا يتحملها إلا الصابرون، وبما يمثله الإحسان من انفتاح على الكون في حاضر الحياة ومستقبلها، بالشكل الذي يغني التجربة، ويوسّع الأفق، ويوحي بالامتداد، {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في ما نخصهم به من مواهب ونعم في الحكم والعلم والقدرة.

* * *

تجربة الإغراء الصعبة

وبدأت التجربة الصعبة في حياته، فها هو يواجه الإغراء بأشدّ صوره، مما لا يملك الامتناع عنه، إذا أراد لحياته أن تستمر في النعيم الذي يتقلّب فيه، والامتيازات التي يملكها، وإلا فَقَدَ ذلك كله، مع خطر على الحرية التي يعيش فيها، وخوف على حياته من الهلاك.

إنه في سن المراهقة حيث تتفتح الغرائز في فضاء الشهوة، وتضيع المشاعر في أجواء العاطفة، ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس، ويتحرك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضبابيّة المبهمة التي تثير الجوّ من حوله، ليحسّ بأنه يسبح في بحورٍ من الحب والخيال، مواجهاً المزيد من أمواج الحسّ التي تطغى على فكره وحكمته.

ففي البيت تعيش امرأةٌ تضج شهوةً وعاطفةً إزاء ما يملك من حسن في ملامحه الجميلة، وهي في الوقت نفسه، امرأةٌ تتبوأ مواقع السلطة والقدرة، فلا يردّ لها أحد طلباً، ولا تمتنع عنها رغبةٌ، سواءٌ من قبل زوجها، أم من قبل أصحاب النفوذ الذين يحيطون بها، فكيف بهذا الشاب الذي لا حول له ولا قوّة، لأنه عبدٌ مملوكٌ اشتراه زوجها بماله ليخدمه ويخدمها ويستجيب لكل طلباتهما ورغباتهما، وقد كانت تشعر أن ما تريده من قضاء الشهوة معه، لا يمثل إلا بعض الرغبات الطبيعية التي يجب عليه تلبيتها كعبد لأسياده. وبدأت عملية الإغراء والمعاناة معاً، وتحركت كل الضغوط الجسدية والخارجية لتلاحق إرادته لتسقطها أمام التجربة الصعبة.

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ} في عملية هجوم عاطفي يوحي إليه بأجواء الإغراء، ويحرّك فيه مكامن الشهوة، ويمنع عنه طريق الهروب، ولعل في التعبير بأنه في بيتها إيحاءً بالجو الضاغط الذي يحيط به، لتوفره على الاختلاط والسيطرة اللذين يسهّلان مهمة السقوط. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} في صوت يشبه الفحيح المحموم الذي يخرج من أعماق الغريزة، فقد استعدت كل الاستعداد الروحي والشعوري والجسدي لهذا الموقف، واعتبرت الحصول على ما تريده حالةً طبيعيّةً، ومهمةً سهلةً لا تحتاج إلا إلى طلب الاستجابة من يوسف، ولهذا كانت الدعوة بهذا الأسلوب الذي يختصر الموقف في كلمة مشبعة بالرغبة الحميمة «هلّم إليّ»، ولكن يوسف كان في عالمٍ آخر، فهو لا يعيش الاستغراق في عالم الحس وتحقيق الارتواء الغريزي، كقيمة إنسانية حيوية يستهدفها الشباب عموماً، بل يعيش لنداء الروح، في ما تنطلق به من روحية الإيمان، وإحساس الوفاء، فهو لا ينظر إلى ما في داخله من أشواق الحسّ، بل يتطلع إلى ما في روحه من آفاق السموّ نحو الله، وهذا ما عبّر عنه في كلمته التي صوّرها الله لنا بقوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} في كلمة مؤمنة موحية تعبّر عن الرفض الحازم من جهة، وعن اللجوء إلى الله، والاستجارة به من هذا النداء الشّبِق المفعم باللهفة والإغراء، الذي يكاد يفترس منه روح الطهر، ويدفعه إلى العهر والفجور.

* * *

مواجهة الإحسان بالإحسان

ثم انطلق ليتحسّس المسألة من جهة أخرى، وهي مسألة الوفاء لسيده الذي أحسن مثواه، فكيف يمكن أن يخونه في زوجته؟ إنه لو فعل ذلك فسوف يحس بالاحتقار لنفسه، كما يحس أيّ خائن، {إِنَّهُ رَبِّي} الذي رباني بما تتضمنه الكلمة من معنى التربية والرعاية والسيادة، {أَحْسَنَ مَثْوَاي} في ما أعدّه لي من منزلٍ وإحسانٍ وحرّيةٍ وراحةٍ، فلا بد من أن أواجه الإحسان بالإحسان، فلا أظلمه بالإساءة إليه وخيانته مع زوجته، لأن ذلك لن يحقق لي النجاح والفلاح في عواقب الأمور، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية، ويظلمون غيرهم بالخيانة، لأن النتائج لن تكون في صالح دنياهم أو آخرتهم.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى إنّ الحديث عن الله لا عن سيدّه، فقد استعاذ يوسف به من الخضوع لإغراء الشهوة، ثم عبّر عن إحساسه بنعمة الله بالمستوى الذي يردعه عن الاندفاع للخيانة، ولهذا كان من المناسب إثارة جانب الاحترام الذي يشعر به يوسف تجاه سيّده، وربما كان التعبير بكلمة {رَبِّى} متعارفاً في الحديث عن السيّد المالك في ذلك المجتمع، كما أن كلمة {أَحْسَنَ مَثْوَايَّ} قد تكون أقرب إلى علاقة يوسف بزوجها الذي رعاه وحماه من التشرّد والضياع الذي يعاني منه العبيد عادة بالانتقال في أسواق النخاسة من مالك إلى مالك، ومن بلد إلى بلد، بينما كان ليوسف في قلب هذا الإنسان موقع الولد، كما عبّر {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وإن لم يصل ذلك إلى مستوى التبني، ولو كان الحديث عن الله لكان من المناسب الحديث عن النعم الكبيرة التي تتصل بوجوده وخلقه ورعايته في كل الأمور.

أما عدم تقدّم ذكره، أو قرب ذكر لفظ الجلالة من موقع الضمير، فليس بشيء يحقق الظهور لما يريدونه، لأن الحديث عنه قد تقدّم في قوله، {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} كما أن جوّ الحادثة يوحي به بشكل بارز، فإن الموقف من الزوجة التي تريد خيانة زوجها يبعث على التفكير بالزوج بطريقةٍ طبيعيّةٍ، تماماً كما لو ذكر باللفظ.

إنها ملاحظات قد ترجّح الوجه الذي نستقربه، والله هو العالم بحقائق آياته.

* * *

ولقد همت به.. وهمّ بها

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} في اندفاعها نحوه، من أجل أن تحتويه بكل ما لديها من عاطفة وشهوة وإغراء في حركة ضاغطة، مشبوبة من موقع الضعف الأنثويّ الغريزيّ الذي لا يرتكز في الجانب الآخر من الشخصية على قاعدة من العقل والإيمان اللذين يمكن لهما أن يحقّقا حالةً من التوازن والانضباط. وهكذا رأت أن الظروف الصعبة التي يعيشها هذا الغلام الجميل الذي وضعته الأقدار تحت سلطتها، تساعدها على تحقيق أغراضها الغريزية منه، فيستسلم لسلطتها وإغرائها {وَهَمَّ بِهَا} في حالة شعورية طبيعية، يتحرك فيها الإنسان غريزياً من دون تفكير، لأنّ من الطبيعي لأيّ شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها، تماماً، كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عندما يشمّ رائحة الطعام، وهذا أمر يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن، لأنه من شؤون الإحساسات الغريزية للجسد، ولكن القضية تتناول الموقف الذي يحدّد للإنسان شخصيته من مواقع الإيمان والالتزام، أو مواقع الكفر والانفلات. وهكذا نتصور موقف يوسف، فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعورياً، وهمّ بها استجابةً لذلك الإحساس، كما همّت به، ولكنه توقّف وتراجع، ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأن موقفه ليس متعمداً، كما هو موقفها، ليندفع به نحو النهآية، كما اندفعت هي، ولكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي، والاندفاع الغريزيّ.

* * *

الموقف اليوسفي

إنها لحظةٌ من لحظات الإحساس، عبرّت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت أمام العقيدة الراسخة، والقرار الحازم المنطلق من حسابٍ دقيق لموقفه من الله لو أطاع إحساسه، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} في ما تعنيه كلمة البرهان من الحجة في الفكرة التي توضح الرؤية، وتكشف حقيقة الأمر، فيحسّ، بعمق الإيمان، أنه لا يملك آية حجةٍ في ما يمكن أن يُقدم عليه، بل الحجة كلها لله، وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة {وَهَمَّ بِهَا} لكلمة: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} فقد اندفعت إليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء، فحركت فيه قابلية الاندفاع، وكاد أن يندفع إليها لولا يقظة الحقيقة في روحه، وانطلاقة الإيمان في قلبه، وبذلك كان الموقف اليوسفيّ، انجذاباً وتماسكاً وتراجعاً مستوحىً من الكلمة ومن الجوّ الذي يوحي به السياق معاً[1].

* * *

هل في الآية ما ينافي العصمة؟

لقد تحدث المفسّرون كثيراً عن تأويل هذه الفقرة لما لها من علاقة بعصمة يوسف، معتبرين أنه قد لا يكون نبياً آنذاك، ولكن رأي الكثيرين، أن العصمة تسبق النبوّة، كما تلحقها أو ترافقها، ويرى بعض آخر أن النبي إذا لم يكن معصوماً قبل البعثة، فمن الطبيعيّ أن يكون ذا مناعة أخلاقية لا تسقط أمام آية حالة من حالات الإغراء، لأن مسألة النبوّة ليست وظيفة تتعلق بالدعوة، بل هيّ مسألة تتصل بالعمق المتأصّل في روحية النبيّ من قوّة الشخصية تؤهله للقيام بمهمّة تغيير العالم.

هذا بالإضافة إلى شهادة الله له، بأنه من عباده المُخلَصين في آخر الآية، مما يفرض أن يكون الإخلاص لله في العبودية، سرّاً مركوزاً في شخصيته، لا حالةً طارئةً عليها.

ولكننا في الوقت الذي نلتقي مع هؤلاء في جوّ الفكرة، مع بعض التحفظات في تفاصيلها، نعتقد أن العصمة، أو المناعة الروحية، أو القوة الأخلاقية، لا تتنافى مع الحالة الإنسانية التي تخضع لعوامل التأثر الطبيعيّ الإنساني بالرغبة والرهبة، بل إن كل ما تؤمنه، هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخط المستقيم، فلا ينحرف في موقف، ولا يسقط في تجربة، أما التهاويل والخطرات، والمشاعر، فهي أمورٌ طبيعية، لذلك فلا مجال لإثارة الشبهة حول موقف يوسف، كما يظهر في الآية، مما يدفع إلى كثير من التأويل والتكلُّف الذي يبتعد عن المضمون الحقيقي لها.

* * *

يوسف ينصرف عن السوء

{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ} بما يلهمه الله لعباده من فكر، وما يثير فيهم من شعور ويفتح لهم من أفق، بهدف عصمتهم من السقوط أمام التجربة، أو الانحراف أمام الإغراء، ليستقيم لهم الدرب في الأفق الواضح، فيحصلوا على ثقة الأمة، في مواقع الصدق في القول والعمل، لتلتزم بما يأمرون أو ينهون عنه، من موقع الثقة، وهذا ما أراد الله ليوسف أن يبلغه، من خلال رؤية البرهان الإلهي الذي استطاع أن يعصم موقفه، ويضبط مشاعره الحسية، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} الذين أخلصوا لله الإيمان، فاقتربوا من وحيه، والتزموا بشريعته، وانسجموا مع هداه، فرعاهم الله واحتضن روحهم وفكرهم، وحياتهم العامة والخاصة. ولا بد لنا أن نثير في هذا المجال، أن الصرف عن السوء والفحشاء، ليس أمراً بعيداً عن حرية الإرادة والاختيار، بل هو قريبٌ منها كل القرب، لأن الله لم يجبره على الابتعاد عن المعصية، بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكلٍ تلقائيّ وعفويّ.

* * *

الكيد العظيم

{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} فقد اندفع يوسف إلى الباب ليهرب منها، وليتخلص من ضغطها العنيف الذي كاد أن يسقطه في الإغراء، واندفعت هي خلفه، لتمنعه من الهرب، ولتفرض عليه الاستجابة لنداء الشهوة، في عملية سباق يحاول فيه كل واحد منهما أن يسبق الآخر. ولكنها استطاعت أن تلحقه قبل أن يفلت من يديها، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} من الخلف، ومزقته عندما كانت تجذبه إليها ليرجع إلى داخل البيت، وكانت المفاجأة لهما بالمرصاد، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}. وفوجىء بالموقف الملتهب أمامه، ولكنها لم ترتبك ولم تخف منه، بل حاولت أن تحوّل المسألة إلى اتهام ليوسف بالاعتداء عليها، لتعاقبه على امتناعه عن الاستجابة لها، بتشويه صورته، واستغلال الفكرة الشائعة عند الناس، أن الرجل هو الذي يعتدي على المرأة، وليس العكس، وربما كانت تشعر بتأثيرها العاطفيّ الكبير على زوجها، كما نستوحي من أسلوب مواجهته لها بالاتهام بعد ذلك، وهكذا حاولت الإيحاء بأن مسألة إدانة يوسف بمحاولة الاعتداء عليها، أمرٌ مفروغٌ منه، لا يحتاج إلى المناقشة أو الإثبات، لأن الموقف أبلغ شاهد على ذلك، ولهذا كان حديثها مع زوجها في نوعية العقوبة التي يستحقها كجزاء على ذلك، {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهكذا حدّدت له طرفي الاحتمال في ما يختاره من العقوبة.

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} ولكنه دفاعٌ ضعيفٌ لا يخضع لطبيعة الفكرة الشائعة عند الناس التي تجعل المرأة في موقف الضعف، في هذا الجانب، بينما يقف الرجل في موقف العدوانية عليها، إلا أن هناك عنصراً جديداً يتدخل ليقوّي موقف يوسف بشهادة لا تحدّد طبيعة ما حدث بشكل مباشر، ولكنها تضع أمام العزيز ـ الزوج ـ أساس الحكم في المسألة، بطريقة لا تقبل الشكّ، لأنها تتناسب وطبيعة الأشياء.

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} مما يجعله في مستوى الثقة، لأنه لا يتصل بيوسف من قريب أو من بعيد، لتكون شهادته له موضع شبهة: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} لأن من المفروض في الرجل الذي يعتدي على المرأة جنسياً، أن يواجهها بالهجوم، وجهاً لوجه، كما يفترض بالمرأة التي تدافع عن نفسها، في هذه الحال، أن توجه ضرباتها إليه في وجهه، وأن تمزّق قميصه لجهة الصدر، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} لأن المرأة عندما تريد الضغط على الرجل الذي يرفض مراودتها له، لا بد لها من ملاحقته وهو يهرب منها، مما يؤدي إلى تمزيق الثوب ويكون ذلك من الخلف، تبعاً لموقعها منه، وموقعه منها، في عملية الملاحقة، وبهذا تكون دعواها كاذبة في الحديث عن مبادرته بالعدوان عليها.

واقتنع العزيز بهذه الملاحظة لأنها قريبة لمنطق الأشياء، {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} صدّق يوسف بأنها راودته عن نفسه، والتفت إليها في موقف استنكار وتأنيب، {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} لما كان يحمله في نفسه من انطباع عن كيد النساء اللواتي يُقمن ضعفهن الأنثوي في مخاطبة شهوة الرجل وغريزته، واستعمال ذلك الضعف كسلاحٍ ضدّه، في ما تذرفه من دموع في حالة الشكوى، وفي ما تقدّمه من أساليب أخرى في محاولة لإقناع الآخرين بظلامتها. وفي هذا الاتجاه سارت زوجة العزيز في موقفها من يوسف، مستغلة وجوده عندها في البيت، وحاجته إليها في ظروف العبودية التي فُرضت عليه، ويقظة غرائز المراهقة في دمه وأعصابه، وعندما امتنع عليها لاحقته في محاولة منها للضغط عليه، ولما فاجأها زوجها بالموقف الشائن بادرت إلى اتهام يوسف بالاعتداء عليها، اعتقاداً منها بأن طبيعة الأمور في مثل هذه الحالات تفرض على زوجها تصديقها وتكذيب يوسف، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} لأنّ المرأة تملك من الوسائل الخفيّة، ما تستطيع به السيطرة على الموقف من أوسع السبل.

* * *

الكيد وضعف المرأة

وقد ذهب البعض، إلى أن التاريخ البشري الذي عزل المرأة عن النشاط الفكري والعمل الجدّي الواسع في حركة الحياة، وحبسها في دائرة البيت وأضاء الأجواء الخاصة المحيطة بموقعها من الرجل جعلها تتجه إلى تفجير طاقاتها في التخطيط للدفاع عن نفسها، بالتآمر والكيد والحيل المتحركة في أجواء الخفاء، في مجتمع النساء والرجال معاً، ولهذا كانت هذه الوسائل نتيجة طبيعيةً لانطلاقة عبقريتها الذهنية بكل طاقاتها في هذا الاتجاه فأبدعت فيه، ككل إنسان يكرس لشيء ما كل طاقاته الفكرية والعملية. وبهذا فإن الحيل والمكيدة لا تمثل حالةً طبيعيةً في المرأة، بل تمثل لوناً من ألوان النشاط الذهني والعملي الذي تحركه أجواء معينة يمكن للرجل أن يقوم به أيضاً في أجواء مماثلة، إلا أن ما يميز المرأة في هذا الشأن أن موقعها الضعيف أمام الرجل والحواجز التي تحول دون حصولها على ما ترغب تجعل الكيد أسلوباً تحتاجه للوصول إلى ما تريد، خلافاً للرجل الذي يتمتع بفضل سلطته وقوّته وموقعه المميّز، بحرّية الحركة، وإمكانات الوصول إلى ما يريد من أقرب طريق بشكل مباشر، دون حاجة للحيلة الكبيرة، والفكر الدقيق.

* * *

يوسف يخرج من التجربة بنجاح

لذا أصدر الزوج الحكم لمصلحة يوسف، ولكنه أراد للقضية ألاّ تأخذ حجماً كبيراً يصل بها إلى مستوى الفضيحة، لأن ذلك يضر بمركزه، أو يعقّد علاقته بزوجته التي كان يحبّها ـ كما يبدو من ملاحظة دورها المميز معه ـ. وبهذا فقد اعتبرها لوناً من ألوان العبث الذي يدعو إليه الضعف الأنثوي، فتوجه إليها وإلى يوسف، وقال له: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا} وانْسَ كل ما يتعلق به، ولا تتوقف عنده، واعتبره أمراً طارئاً، ككل شيء يحدث بسرعة، وينتهي بسرعة، وقال لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} في مراودتك ليوسف بما يمثله ذلك من عدوان عليه، ومن خيانة لحقوقي الزوجية، {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} في ما كنت تحاولينه من الوقوع في الزنى بطريقة الضغط والعدوان، مما يجعل الخطيئة مضاعفة في الموقع الذي تقفين فيه.

وهكذا أسدل الستار على هذا المشهد في نطاق المشكلة التي أثارها هذا الوضع الطارىء القلق في البيت، وعاد كل واحد إلى عالمه الخاص، وهدأ كل شيء في الداخل، ونجح يوسف في الامتحان الروحي الإيماني في أوّل تجربةٍ صعبةٍ تهزّ كل وجدانه، وكل وجوده.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) والحقيقة أن ما ذهبنا إليه هنا من تفسير لقوله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه..} ليس مما نتفرد به، إذ ذهب إليه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في تبيانه. فقد ذكر ـ رضوان الله عليه ـ من معاني الهم: "الشهوة وميل الطباع، يقول القائل في ما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه: هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إليّ. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن، وقال: أما همها، وكان أخبث الهم وأما همه، فما طبع عليه لارجال من شهوة النساء، وإذا احتمل الهم، هذه الوجوه، نفينا عنه(ع) العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأن كل واحدٍ منها يليق بحاله..". (الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج:6، ص:121). والأمر عينه ذهب إليه أيضاً السيد المرتضى(ره) في كتابه "تنزيه الأنبياء"، وذلك في معرض تعليقه على المعاني المتعددة لكلمة "الهم"، قائلاً: "فإذا كانت وجوه هذه اللفظة" (أي الهم) مختلفة متسعة على ما ذكرناه، نفينا عن النبي ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأن كل واحدٍ منها يليق بحاله (راجع تنزيه الأنبياء، ص:73، 75).