من الآية 30 الى الآية 33
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضلالٍ مُّبِينٍ* فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ* قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ* قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ}(30ـ33).
* * *
معاني المفردات
{شَغَفَهَا}: أي بلغ شغاف قلبها، أي باطنه، وقيل: وسطه.
{وَأَعْتَدَتْ}: أعدَّت وهيأت.
{مُتَّكَئًا}: ما يتكأ عليه من فرش ونحوه.
{وَقَطَّعْنَ}: جرحن.
{فَاسَتَعْصَمَ}: طلب العصمة وامتنع عما أرادت منه.
* * *
شيـاع الخـبر
ومضت امرأة العزيز في حبّها ليوسف، يأخذ عليها كل كيانها ووجدانها، ويملأ كل حياتها، ولكنها لم تجرّب أن تمارس الضغط الجسدي عليه، بعد فشل التجربة الأولى، بل كانت تحاول إثارته بكل ما تملك من وسائل الإغراء، في كل وقت، مستغلة ضعف موقعه كعبد، أمام قوة موقعها منه كسيّدة ومالكة له، وتعاظم هذا الحب الذي بدأ يعبّر عن نفسه في نظرات العيون، وحركات الجسد، وكان الشغل الشاغل لها، فلم تستطع معه أن تحفظ لنفسها بهذا السرّ، فعرف الناس بذلك من خلال ما كانوا يشاهدونه في طريقة معاملتها له، وفي ما كانوا يلاحظونه أو يستنتجونه من مراودتها له، وهكذا شاع الخبر بين الناس، وتلقفته أفواه النساء اللاتي رأين فيه مادّة طيّبة للحديث، ولوناً من ألوان التندّر والسخرية بامرأة العزيز التي كن يضمرن لها بعض الحسد، لموقعها المميز في الوسط الاجتماعي الذي ينتمين إليه، وهذا ما حدثنا القرآن عنه.
* * *
مكر النسوة
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} وتدعوه إلى ممارسة الفحشاء معها، {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} وملأ كل قلبها حتى الأعماق، وسيطر على كيانها، حتى دفعها إلى الخيانة، {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وأي ضلال أبعد وأوضح من عشق السيِّدة لعبدها، في ما يمثله ذلك من خسّة في النفس، وخروجٍ عن التقاليد، وتنكّرٍ للموقع الاجتماعي الذي تقف فيه، فإذا كان المجتمع الراقي يبيح للمرأة أن تخون زوجها وتتخذ لها عشيقاً، فإن عليها أن تتخذه من داخل الطبقة المميزة التي تنتمي إليها، لئلا تسيء إلى تقاليدها الطبقية التي تفرض إقامة الحواجز بينها وبين الطبقة السفلى، فلا تتنازل السيدة فيه لعبدها مهما كانت الظروف، في آية لفتة عطف، فكيف يُسمح لها أن تدعوه إلى نفسها في علاقة جنس؟! وهكذا بدأ الحديث عنها يتخذ منحىً خطيراً في تشويه سمعتها وتحقير مكانتها، والتنديد بخروجها عن الأخلاق الطبقية التي يحترمها مجتمعها، ويرى في الخروج عنها ضلالاً مبيناً، وانحرافاً خطيراً، وربما كان هذا الحديث صادراً عن سوء نيّة، وشعور بالحسد لها، لا عن إخلاص للقيم الاجتماعية، والتقاليد الطبقية.
* * *
خطة الالتفاف
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} بما يتحدثن به عنها، وما يسعين له من تحقير لمكانتها في المجتمع، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} في دعوة اجتماعية لا توحي بأيّ طابع مميّز، تماماً كما هي عادة النساء في اجتماعاتهن الخاصة، لمناسبة فرحٍ أو حزن، أو للأخذ بأسباب اللهو، أو التحدث في أيّ أمر طارىء، أو في أي شيء يملأ الفراغ، ويمتّع النفس، وكانت تريد مفاجأتهن، والالتفاف على مكرهن بمكر أشدّ في عملية ذكية لتوريطهن بما تورّطت به، ولايقاعهنّ في خطيئة التمرد على تقاليد المجتمع الطبقية، فدعتهن إليها، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا} في ما يوحي به ذلك من المجلس المميز الذي يستسلمن فيه للراحة والاسترخاء، ليأخذن حريتهن في الجلوس وفي الحديث في جوّ عائليّ حميم. {وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا} لتقطع به الفاكهة التي قدمتها إليهن في هذا المجلس، وهنا كانت المفاجأة التي لم يتهيّأن لها، فلم يكن في البرنامج أو هكذا يبدو أن يخرج يوسف إليهن، أو يجلس معهنّ، لأن التقاليد الطبقية لا تسمح بذلك. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} في أمرٍ حاسمٍ صادر من السيدة لعبدها، فخرج إليهن، لأن موقعه يفرض عليه الطاعة لسيدته، فإذا بالزلزال الروحي والعاطفي والشهواني يهزّ كل كيانهنّ، ويسيطر على كل مشاعرهنّ، في اندفاعةٍ ساحقة، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} لإشراقة وجهه وجمال صورته، وسحر ملامحه، وحلاوة شخصيته.
* * *
الدخول المفاجىء
لقد كان ذلك كله مفاجأة لهن، لأنهن كن يتصورنه على صورة العبيد الذين لا يملكون آية ميزة جمالية، ولهذا كنَّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه، وأن تعشقه، وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئاً من احترامهن للأخلاق والعفّة، لأن مجتمعهن الطبقي لا يعير ذلك أهمية، بل قد يكون ناشئاً من اعتبار موقفها شذوذاً في التصرّف، وانحرافاً في الذوق تستسلم معه المرأة الكبيرة، لعبد لا جمال فيه أو إثارة... أما الان، فقد وجدن لها كل العذر، لأنهن وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهول وانجذاب، فقدن معه السيطرة على مشاعرهن، ووعيهن، حتى لم يعدن يعقلن ماذا يفعلن، فعندما رأينه، تركن تقطيع الفاكهة بالسكاكين التي قدمت لهن لذلك، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} من دون شعور، فإذا بالدماء تسيل، وهن لا يشعرن بالألم أمام سكرة النشوة بهذا الجمال، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } في تعبير يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة التي تجعله من صنف البشر، كأنهن يقلن حاش لله أن يكون كذلك في ما يقوله الناس عنه، {مَا هَـذَا بَشَرًا} لأن البشر لا يملكون مثل هذا الجمال الروحي الذي لا مثيل له، {إِنْ هَـذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} في ما يتصورن به الملائكة من السموّ في الجمال الخارق الذي لا يدانيه جمال في الكون، لأنهم يمثلون أقصى حدود الروعة في التكوين.
* * *
تبرير الانحراف
وهنا جاء دور امرأة العزيز لتدافع وتبرر علاقتها المنحرفة بيوسف التي عرضتها لهجوم هؤلاء النسوة، {قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإذا كنتن قد فقدتنّ شعوركن وإراداتكن وعقولكنَّ أمام النظرة الأولى لهذا الملاك الجميل، فما حال المرأة التي تعيش معه في البيت في كل أوقاتها، في خلوة كاملة، توحي لها بكل إغراء الحرية، أمام إغراء الجمال، فهل عليّ لوم إن فعلت ما فعلت، أو ثارت عواطفي تجاهه، إنها التجربة الصعبة التي لا مثيل لها، فالنيران تلهب مشاعري وأحاسيسي وغرائزي كالجحيم، دون أن أتمكن من إطفائها، بل أعاني الشعور بالحقارة أمام نظرته المتعفّفة الورعة المتعالية عن الإغراء التي ترفض كل هذا الجمال الذي أقدّمه له، وتستهين به، وتحتقره، كما يثير فيّ الرغبة التي تشتد أمام الامتناع من جهةٍ أخرى.
* * *
يوسف بين ضغوط الإغراء والتهديد بسجنه
وربما شعرت أن حديثها يضعها في موقف الضعف، فكيف يمتنع هذا العبد عليها، وهي السيدة المالكة له، المسيطرة عليه، وكيف يرفضها وهي التي تساقط كل الرجال تحت أقدامها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوتها أمامه، وأمامهنّ، لئلا يحتقرن موقعها منه فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ} بما أملكه من تأثيرٍ على زوجي وعلى أولي الأمر، يتيح لي الضغط لإدخاله السجن حيث يشعر بحقارة موقعه، ويعرف حقيقة قدره، فيقف عند حدوده، ولا يتمرّد على أسياده، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء.
وشعر يوسف بأنه محاصر بهذا الجمال المتنوع بين امرأة العزيز التي تدعوه إلى نفسها في الليل والنهار بكل ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء، بهدف إثارة غريزته وشهوته، وبين هؤلاء النسوة اللاتي عرفنه في هذا اللقاء، وبدأن يراودنه عن نفسه، بطريقة خفيّةٍ أو معلنةٍ، وربما يلاحقنه في المستقبل ليؤثرن عليه، وقد يحاولن الضغط عليه بتهديده بطريقة أو بأخرى، بالسجن أو غيره، كما ذكرت امرأة العزيز... فماذا يفعل؟ إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن، ويسقط في التجربة أخيراً، لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء، ونداء الغريزة.
* * *
اللجوء إلى الله
إن يوسف بشرٌ كبقية البشر، يتأثر بما يتأثرون به، ويستجيب لما يستجيبون له، ولولا رعاية الله وعصمته له، لانقاد لها في ما دعته إليه ولكنه ها هو يستعين بالله، في هذا الموقف كما استعان به في الموقف السابق، ويريد له أن ينقذه الآن، كما أنقذه من قبل، إنه يفضّل كل مصائب الدنيا وآلامها، على موقف معصية لربه، ولهذا لجأ إلى الله وصرخ بكل قلبه، في دعاءٍ خاشع حارٍ مبتهل، وبروحية العبد الذي تحضر كل مشاعره وأحاسيسه، ويتحرك كل عقله وإرادته، طلباً للنجاة من ملاحقة الشيطان له، الذي يريد إسقاط عفته وأمانته وإرادته، ويبعده عن محبة الله، إنه ينشد الخلاص من هذا الحصار الشهوانيّ الغريزيّ الذي يعرض عليه الجمال المتنوع بكل كنوزه.
* * *
السجن أحب من ارتكاب المعصية
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من ارتكاب الفاحشة، والخضوع لتأثير الإغراء،لأن السجن مع رضاك، أفضل عندي، وأحب إليّ، من الحرية واللذة والمتعة مع معصيتك، لأن في رضاك سعادة الروح في الدنيا والآخرة، وفي غضبك، شقاء الروح في الدنيا والآخرة. إنني أقف بين سعادة الأبد في خط الطاعة مع ظلام السجن، وبين شقاء الأبد في حركة المعصية، في نور الحرية، فأرى في السجن السعادة، وفي الحرية الشقاء، فَأَعِنِّي ـ يا رب ـ على بلوغ رضاك، وقوِّ إرادتي لتقف في ساحة محبتك، وامنعني من أن أقارف معصيتك. {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} بما تمنحني إياه من قوّة الإيمان والإرادة، وبما تبعدني به عن أجواء الإغراء، {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} وأميل إلى تحقيق رغباتهن التي قد تستجيب لها رغبتي، {وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ} الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة، لقاء لذة فانية لا تمثل شيئاً في عالم السعادة والخلود.
* * *
بين تكبل الجسد وحرية الروح
وهكذا تتمثل، في هذا الموقف النفسي الإيماني الروحي المتمرد على أشد أنواع الإغراء، أروع مواقف الرفض للانحراف، من أجل أن يستقيم للمؤمن خطّه، ويتعمّق إيمانه، ويستمر في حركته الصاعدة إلى الأعلى.
إنه الموقف الذي يوازن فيه الإنسان بين حرية جسده في التحرك في خط الشيطان، وبين حرية روحه في التحرك في خط الله.
لقد فكر يوسف أن الاستسلام لرغبة امرأة العزيز وصويحباتها في ممارسة الفاحشة معهن يجعله عبداً لهن، وبذلك يفقد إنسانيته فكراً وشعوراً وحركة إيمان، وربما كان يفكّر أن عبوديته لامرأة العزيز التي كان يعيشها لم تكن مشكلة كبيرة له، لأنها كانت تمثل حجزاً لحريته في حركة الحياة العادّية، من تنقلات وتوقيت لليقظة والنوم، وعمل على خدمتها وخدمة زوجها ولكن ذلك كله لم يكن ليقترب من عمق المضمون الروحي لإنسانيته، ببعدها الأخلاقي والسلوكي التزاماً بأوامر الله ونواهيه.
أما الاستسلام لما يردنه له من شهوات، فيمثل السقوط في الهاوية حيث يفقد إمكانية رفض ما يرفضه أخلاقياً وروحيّاً، وإمكانية قبول ما يؤمن به من خلال مبادئه ورسالته، وبهذا تتحقق عبوديته بأقسى دلالاتها في نفسه، فلا تبقى حالة العبودية من الخارج بل تتحول إلى عبودية الإرادة والقرار، حيث لا يملك أن يقرّر بحرّيةٍ، ولا يستطيع أن يوجّه إرادته باستقلال، ولهذا اختار السجن الذي تتكبل فيه حركة الجسد لتتنفس روحه هواء الحرية. وهكذا انطلق الإنسان الحر في شخصه، ليولد مستقبلاً جديداً له يحقق من خلاله الحرّية لأمته وللناس أجمعين.
* * *
كيف نستوحي الموقف؟
وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف، في كثير من المواقف التي يواجه فيها المؤمنون الضغوط القاسية: الخيار بين السجن والانحراف، أو بين الاضطهاد والخيانة، حيث يضطرون للمفاضلة ـ في كثير من الحالات ـ بين قضية الرسالة، وقضية الذات، فيختار البعض حريته تحت تأثير تبريرات تصور له التراجع كما لو أنه حالة اضطرار تحلّ فيه المعصية وتسوّغ الانحراف، لتبني المنطق الفردي في تقييم الأمور، بعيداً عن المنطق الجماعي الذي يربط بين حركة الفرد، وبين النتائج السلبية أو الإيجابية على قضية الأمة والرسالة.
ولعلَّ يوسف قد أطلق هذا النداء الحي من أعماق روحه عندما وجد إرادته في موقع يتهددها بالسقوط، فصرخ في ابتهال المؤمن أمام ربّه، ليستعين بالله استمداداً للقوّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان.
وهذا ما تفرضه حاجة الرسالة إلى المواقف الثابتة على خط التضحية والإيمان، بدلاً من الكلمات الاستعراضية التي لا تحقق سوى الضوضاء التي تضيع في الهواء.
ولعله من الضروري، لبناء هذه الشخصية، التأكيد على تشكيل خطّة تربويّة متكاملة، تشمل جانب الفكر والروح والشعور، من خلال الكلمة الموحية، والجوّ الروحي، والقدوة الحسنة، فإن تأسيس عمق الإحساس الداخلي بالرفض والقبول أمام ما يمكن أن يتعرض له المسلم سلباً أو إيجاباً، يجعل من عملية الرفض والقبول تلك عملاً روحيّاً يراقب فيه ربّه، في روحانية وصفاء، ويتمرّد معه، على كل النوازع الذاتية والعوامل الخارجية، التي تحاول الانحراف به عن الخط المستقيم، فيعيش حالة السموّ في أخلاقيته بالمستوى الذي يجعله منسجماً مع إيمانه ورساليته نظرياً وعملياً. وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلامية التي يواجه فيها الإسلام كل تحديات الكفر والضلال التي تضغط على الفكر والشعور والحركة، مما يفرض على المؤمنين الحصول على القوّة الروحية التي تدفعهم إلى التضحية على كل الأصعدة، والانطلاق من زوايا الحاضر نحو المستقبل الرحب، الذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا الكبيرة.
تفسير القرآن