تفسير القرآن
يوسف / من الآية 36 إلى الآية 40

 من الآية 36 الى الآية 40
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(36ـ40).

* * *

معاني المفردات

{يا صَاحِبَي}: الصاحب: الملازم لغيره على وجه الاختصاص.

{الدِّينُ الْقَيِّمُ}: هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

* * *

السجن ساحة للدعوة

ودخل يوسف السجن بروحيّة الإنسان المؤمن الذي لا يعتبر السجن مشكلةً ومأساةً، بل يرى فيه موقع الانتصار على النوازع الجسدية، وعلى الضغوط الخارجية التي تتحدى فيه إرادة الإيمان، وقوّة الالتزام. وفي هذا الجوّ كان يفكر بأنّ عليه إلاّ يتجمّد في مشاعر الوحشة والفراغ لينتهي إلى حالة كئيبة من الضياع الروحي، بل أن يستثمر فرص الحركة التي تتيحها الساحة له. وفكّر أنه ليس الوحيد الذي يدخل السجن، فهناك من دخلوا قبله، وهناك من سيدخلون بعده، وفيهم الكافرون والضالون، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي يعيشها السجين، والمشاعر البائسة التي يخضع لها، والآمال الطيبة التي يرجوها في يقظته ونومه، والحالات النفسية الصعبة التي يحتاج فيها إلى من يساعده في مواجهتها مما يفسح المجال للهدوء في فكره، والحياد في موقفه، الأمر الذي يسهل على يوسف دخول قناعاته وتغييرها على أساس الحق والصواب، وذلك هو شأن المؤمن الداعية الذي يعيش همّ الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق، فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير، فهو في التفاتةٍ دائمةٍ لما حوله، ولمن حوله، وترقّب مستمر للأجواء الملائمة التي تفتح له قلوب الناس وعقولهم على الحق.

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} فتعرّف إليهما، وتعرّفا إليه، ونشأت بين الثلاثة صحبةٌ وإلفةٌ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السجن من حاجة إلى من يستريح إليه السجين ويرتاح للحديث معه، ليخفّف من وحشته، وهكذا بدأ الحديث في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعة، وكان هذان الشخصان قد شاهدا في منامهما، حلمين غريبين أثارا في نفسيهما القلق والحيرة، لأنهما لم يستطيعا فهم السرّ الذي يكمن خلفهما فأحبّا أن يحدّثا يوسف عنهما، فلعلهما يجدان لديه التفسير الواضح الذي يكشف لهما هذا الغموض، فقد لاحظا امتلاكه لفكرٍ هادىٍء، وعقلٍ متحركٍ، وشخصيةٍ حكيمةٍ، وهذا ما جعلهما يمنحانه الثقة الكبيرة.

* * *

إحسانه جذبهما إليه

{قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ولم أستطع معرفة المضمون الواقعي لذلك في ما يحيط بحركة الحياة من حولي، {وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} فما معنى الخبز؟ وما سرّ حمله على الرأس؟ وماذا يمثل أكل الطير منه من رمز؟ فهل هو رمز للنعمة أو للعطاء، أو هو رمزٌ للنقمة والفناء؟ {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} لأن للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل، بما توحيه من تشاؤم أو تفاؤل يعرّف الإنسان كيف يحدد اتجاه موقفه، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحبون أن يعطوا من مواقع ما يعرفون، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها، لأن ذلك هو معنى الإحسان الذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان، تجاه من حوله.

وقد جاء في بعض الكلمات التفسيرية عن الإمام جعفر الصادق(ع) ـ في ما روي عنه ـ في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قال: «كان يقوم على المريض، ويلتمس المحتاج، ويوسّع على المحبوس»[1]. وربما كانت هذه الأمور وما يدخل في جوّها الأخلاقي، هي التي جعلتهما ينجذبان إليه، وينفتحان عليه هذا الانفتاح الروحي الذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين.

* * *

توسل التأويل لهداية الفَتَيان

ولم يكن ليوسف شأنٌ بالجانب الذاتي لما سألاه عنه، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلمية في تأويل الأحلام، أو في غيره من الأمور، بل كان يتوسّل هدايتهما إلى الصراط المستقيم من خلال ذلك ككل داعيةٍ إلى الله، يتحسس ضرورة استخدام كل طاقاته في سبيل الدعوة والهداية، وتحريك علاقاته بالناس، في هذا الاتجاه. وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما عما وهبه الله من إمكانات علميّة، تمكنه من استيحاء الأحلام ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه، أو في استلهام الإشراق الروحي الذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف آفاق المستقبل في حياة الناس.

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا} لقد سألاه عن تفسير ما رأياه من الحلم فأجابهما بأنه يملك أن يخبرهما بما سيأتيهما من طعام، قبل إتيانهما به، لأن الله أمدّه بمعرفة بعض جوانب الغيب، وربما كان السبب في ذلك أنه يريد أن يؤكد لهما سعة المعرفة التي يملكها، كوسيلة من وسائل تعميق ثقتهما بشخصيته للتأثير عليهما وعلى قناعتهما الفكرية، لأن معرفته تلك ينبغي أن تمنحهما الثقة بالطاقة الروحية المميّزة التي توحي لهما بضرورة الاهتداء بهديه، والانسجام مع دعوته ومنهجه في الحياة، لا سيما وأنه يتصل ـ في ذلك كله ـ بالله من أقرب طريق. {بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} مما يعلّم به عباده الذين يُعدّهم لرسالته، فيلهمهم علم ما لم يعلمه الناس ويزيدهم معرفةً تجعلهم في مواقع القيادة والتوجيه، وذلك بعد أن يطّلع على قلوبهم فيجد فيهم صدق الإيمان به، والإخلاص له، وعمق المعرفة به، ورفض كل شريك له.

{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ} وانفصلت عن كل الأفكار التي يرتبطون بها، والمفاهيم التي يحملونها، والأوضاع التي يعيشونها لأن قضية الإيمان بالله واليوم الآخر ليست حالةً شعوريةً طارئةً تتمايز بها المشاعر الذاتية فقط، بل هي قاعدة للفكر وللحياة، لارتكازها على أسس العقيدة والشريعة والأخلاق، فهناك خطّان لحركة الإنسان في الحياة، لا يلتقيان في أيّ موقعٍ، خط الإيمان بالله واليوم الآخر، وخط الإلحاد أو الشرك به، فلكل واحد منهما منهجٌ للوعي وللسلوك وللعاطفة، وهذا ما جعلني أعيش الانفصال عن هذا المجتمع الذي اختار الابتعاد عن خط الإيمان بالله واليوم الآخر، والاقتراب من خط الكفر، {هُمْ كَافِرُونَ} ولا يمكن للمؤمن أن يلتقي بالكفر في طريق، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وهؤلاء الذين حملوا رسالة التوحيد لله إيمانا ودعوة ومنهج حياة، في ما يحمله فريق الإيمان في عقله وقلبه، من رسالة وإيمان ودعوة ورفض للشرك.

{مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ} لأن الذي يكتشف روح التوحيد، لا يمكن أن يلتقي بخط الشرك في العقيدة والعبادة، {ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} بما أعدّه لهم من سبل الهداية والصلاح من خلال الوحي الذي خصّ به رسله ليبلغوه للناس، فيهتدون به، مما يُلزمهم بالشكر له، والشعور بالجميل الذي يطوّقهم به، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} فيشركون به، في عبادتهم لغيره دون حجّة لهم في ذلك، ولا دليل لهم عليه.

* * *

وهم الأرباب

{يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} اللذين أشعر بأن لهما عليّ حق الصحبة في رحلة السجن مما يُلزمني بالنصيحة في الفكر، والموعظة في السلوك، لأن الإنسان المؤمن، هو الذي يحسُّ بمسؤولية إرشاد الناس إلى خط التوحيد بما يمثله من استقامة في العقيدة والعبادة، فيعمل على إثارة تفكيرهم ليقتنعوا من موقع الفكر، ويعملوا من موقع القناعة، لأن الإيمان لا يرتكز في حياة الإنسان على المشاعر العاطفية، بل يرتكز على أساس التأمّلات الفكرية، وهذا ما أراد أن يثير تفكيرهما فيه، حين طرح عليهما هذا السؤال:

{ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ما الذي يملكه هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم من دون الله من الصفات التي لا بد أن يتميّز الإله بها، ليستحق العبادة من خلقه، من قدرة على الخلق وإعطائهم لنعمة الحياة، ومنحهم لما ييسر لهم سبل الحياة ويمهد لهم سبل الراحة فيها؟! {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} لقد تخيّلتم صوراً في أشياء أو أشخاص، وتوهمتم قوىً خفيّةً في مخلوقات، وصنعتم لها من فكركم أسراراً وأوضاعاً وصفات لا واقع لها، بل هي خيال، لا تملك من الحقيقة إلا وجودها المادي المحدود الذي يتساوى فيه مع كل الموجودات الأخرى، أما الربوبيّة أو الألوهية وغيرها من صفات الخالق المعبود، فلا وجود لها في عمق هذه الأشياء، فهي مجرد أسماء أطلقتموها عليها دون أيّ أساس لذلك في عناصرها الحقيقيّة. ولكن الله هو الحقيقة التي تحتوي الوجود كله، وتسيطر عليه، وتقهر كل القوى فيه، لأنه مخلوقٌ له، وخاضع في حركته كلها لإرادته، وهو الذي تحكم كل مسيرته، فلا حكم لغيره، ولا سيطرة لسواه.

* * *

الحكم والعبادة لله وحده

{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} فهو الذي يحدّد للإنسان خط العبادة، وخط السير، فلا يملك أن يختار لنفسه إلا ما يختاره الله له، بأوامره ونواهيه، {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} بما تمثله العبادة من خضوع له في التشريع، وفي الحكم، وفي كل شؤون الحياة، فلا أمر إلا أمره، ولا حكم إلا حكمه، ولا شريعة إلا شريعته، وهذا ما يجعل الشرك في العبادة، مسألة لا تتعلق بالجانب العبادي التقليدي على مستوى الصلاة والصيام والحج ونحوها، بل تتعلق بالخط الذي يتحرك فيه الإنسان في حياته، وما يلتزم به من أحكامٍ، وما يعيشه من أوضاعٍ وعلاقات، فمن اختار شريعةً غير شريعة الله، ومنهجاً غير منهجه، وقيادةً غير قيادته التي أراد للناس أن يلتزموها، فقد أشرك بعبادة الله غيره، لأن هذا الخط يجسِّد الخضوع المطلق لله في واقع الحياة بما تعنيه العبادة من معنى الخضوع.

* * *

الدين القيّم

{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم الذي يقوم على إدارة شؤون الحياة والإنسان، ويحكم كل شيء فيها والذي يتلخّص في كلمة واحدة، هي إخلاص العبادة لله وحده، فذلك ما يمثل خط السير من البداية إلى النهاية، ويحدّد الاتجاه، في كل صعيد. ومن هنا نعرف أن الدين الذي أراده الله لعباده، هو الذي يعيش الإنسان فيه مع الله في كل شيء، بحيث يشعر بالارتباط به في الأمور كلها، ويلتقي به في كل المواقع، حتى أن كل العلاقات تمر به، وكل الشرائع تلتقي عنده، وتبقى كل التفاصيل خاضعةً لهذا الخط في البداية، وفي خطوات السير، وفي النهاية، حيث يبدأ الإنسان منه لينتهي إليه، دون التواء أو انحراف. وهذا ما يجب أن يفهمه الناس ويسيروا عليه، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فينحرفون من موقع الجهل، لا من موقع التفكير المضاد، فيبتعدون عن الخط من حيث لا يعلمون.

وهكذا أراد يوسف لهما أن يعيشا هذا الجوّ، وينفصلا عن أجواء الضلال التي عاشاها في المجتمع الكافر الذي كانا جزءاً منه. ولا ندري هل استجابا له، أو أنهما كانا يستعجلان معرفة تأويل الحلمين اللذين طلبا تأويلهما، لأن القرآن لم يحدّثنا عن ذلك، باعتبار أنه لا يجد كبير أثر فالجانب الأهم هو في ما أراد أن يوحيه من ضرورة الالتزام بخط الدعوة في ساحات مماثلة لساحة السجن، حيث يملك الإنسان من حرية الحديث، وإمكانات التأثير في الآخرين، ما لا يملكه في غيرها، مما يفرض عليه عدم التعلل بالأعذار الواهية أمام نفسه أو أمام الآخرين، للتقاعس عن أداء المهمّة أو التحرك في خط الرسالة.

ــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى، 1412هـ ـ 1992م، م:5، ج:12، ص:147، باب:9، رواية:5.