من الآية 43 الى الآية 49
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ* قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ* وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (43ـ49).
* * *
معاني المفردات
{عِجَافٌ}: جمع عجفاء، أي المهزولة.
{تَعْبُرُونَ}: عبرتَ الرؤيا: فسّرتها.
{أَضْغَاثُ}: جمع ضغث وهو قبضة ريحان أو حشيش، أو قضبان، وهو ما لا تستطيع أن تعرف حقيقته أو واقعه.
{دَأَبًا}: العادة، والمراد به هنا: الدوام على الزرع.
{تُحْصِنُونَ}: أي تحرزون.
{يُغَاثُ}: أي يفرج الله عنهم ويطلق الغيث على المطر وعلى ما ينبت بسببه.
{يَعْصِرُونَ}: يستخرجون العصير مما يعصر، كالعنب والزيتون، وهو كناية عن الخصب.
* * *
الرؤيا الغريبة
... ومرّت الأيام، وبقي يوسف في السجن يعاني قساوته، ويواجه ظلماته، وربما كان يلتقي بالسجناء القادمين، فيعظهم ويرشدهم ويهديهم إلى سواء السبيل، كجزء من مهمته الرسالية، وربما استطاع أن يحقق الكثير من النتائج الإيجابية على هذا المستوى دون أن يتحدث القرآن عنه، لأنه لا يدخل في حركة الفكرة في أحداث القصة، كما هي الحال مع كثير من التفاصيل التي يغفلها القرآن، أو يختصرها، أو يكتفي بالإشارة إليها، لعدم وجود اية علاقة بينها وبين الأفكار التي يريد إثارتها من خلال القصة، وقد يكون الاكتفاء بذكر حديث يوسف مع صاحبيه في السجن وموعظته لهما، وتفسيره لما رأياه من حلم للإيحاء بالشخصية الرسالية ليوسف، ولعلاقة حديثه معهما بتطور قصته والتغير الذي طرأ على مواقعه في النهاية.
وقد تحوّل الرجل الذي كان معه في السجن، إلى ساق للملك، ولم يحدث ما يذكّره بيوسف، ليذكر أمره للملك، من أجل إخراجه من السجن، حتى جاءت الحادثة التي هزّته، وذكَّرته بشخصية يوسف، في أجواء الحاجة إليه، التي قد تمنح هذا الساقي موقعاً متقدماً عند الملك، فقد رأى هذا الملك مناماً غريباً، لم يعرف تفسيره، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}، وهو أمرٌ غريبٌ لأن السمين القويّ هو الذي يمكن أن يغلب الضعيف الهزيل، نظراً لطبيعة قوته، وليس العكس، {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}، فماذا يعني الاخضرار في هذه السبع، واليباس في السبع الأخرى؟ وما الذي جعل هذه تخضرّ، وتلك تيبس، في الوقت الذي لا يختلف فيه مكان إحداهما عن الأخرى؟ {يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} لأن الرؤيا ـ في مفهومهم ـ هي الرمز الحقيقي للمستقبل، بما يختزنه من أحداث غيبية قد تعبّر عن نفسها بألوان الوحي الداخلي الذي يتحوّل إلى نوعٍ من أنواع الإنذار للإنسان، بما ينتظره من مفاجآت مخيفة، ليستعد لها من أجل تخفيف نتائجها السلبية في حياته المقبلة، أو إلى نوعٍ من أنواع البشارة، بما ينتظره من أحداث سارّة، ليعيش مشاعر السرور، في روحه وفكره، على أساسها.
* * *
هل للأحلام حقيقة في الواقع؟
وربما كان في هذا الفهم بعض الصواب نستوحيه من قصة يوسف التي توحي بأن للأحلام عمقاً في حركة الواقع الإنساني، ومدلولاً حقيقياً في ما يعنيه الرمز الحيّ، للحاضر والمستقبل، وفي ما نفهمه من أن معرفة أسرارها تحتاج إلى إلهام ربّاني، يلهم الله فيه بعض عباده، ما يستطيعون به تحليل تفاصيلها، وتوضيح مبهماتها، فقد يعطي الله بعضهم سعة المعرفة في ذلك كله، وقد يمنح البعض القليل من ذلك، وربما لا يستطيع الإنسان الجزم دائماً بأن هناك قواعد ثابتةً لمعرفة طبيعة الرمز وعلاقته بالواقع، على الشكل المطلق، فقد تختلف القضية حسب اختلاف الأجواء المحيطة بالرمز ودلالته من حيث الشخص والزمان والمكان، في ما يتسع فيه الأمر لأكثر من احتمال، ولكن هل معنى ذلك، أن للمسألة بعداً كلياً يفرض وجود حقيقة مع كل حُلُمٍ، أو أن للمسألة بُعداً جزئياً في هذا المجال؟ فقد تكون بعض الأحلام، ردّ فعل لحالة نفسيّة، أو غذائية أو عمليّة، أو استذكاراً لأوضاع ماضية في حياته، مما يجعلها صورةً لما تختزنه النفس من مشاعر، وأفكار وانفعالات، أو لما يعيشه الجسد من حاجات.
ليس لدينا ما يؤكد الشمولية الكلية للمسألة، بل قد نجد أن العكس هو الصحيح في ما نراه من عدم الصدق في الكثير من الأحلام، وارتباط بعضها بالعوامل الذاتية الخاصة.
أما حول طبيعة القاعدة العملية التي تخضع لها الرؤيا وتصلح مقياساً لصدقها أو كذبها، فإننا لم نقف لها على أساس ثابت، بل ليس هناك سوى الحدس والتخمين، أو التعليلات المنطلقة من إخضاع الإنسان لنظرية العامل الواحد، كما نلاحظ في التعليل الذي يقدمه فرويد، والذي يعطي الأحلام مداليل جنسية، تتحوّل فيها رموز الأحلام إلى رموز للأعضاء التناسلية أو الحالات الجنسية وما إلى ذلك، ارتكازاً على نظريته. ولكن مثل هذه الاحتمالات أو النظريات لا ترتكز على أساس قطعيٍّ لها، يجعلها في دائرة الحقيقة العلمية، كما لا تنطلق من حجج علميّة مقنعة تجعلها في نطاق النظرية العلمية المعقولة، ولهذا فإننا لا نستطيع الجزم بشيء من هذا القبيل، تجاه ما نشاهده أو ينقل إلينا من أحلام، إلاّ من خلال النتائج التي نواجهها في المستقبل مما يتطابق مع صورة المنام، أو نجدها في واقعنا الحاضر.
إنها لونٌ من ألوان الغيب الداخلي في عالم النفس الذي لم نستطع أن نبلغ فيه المدى الواسع من آفاقه لأننا لم نعرف طريقة النفس، أو الروح، في إدراكها للمستقبل مما يدخل في عالم النبوءات من خلال الفكر أو الإلهام، أو من خلال الأحلام، وربما يكشف الله للإنسان في المستقبل بعض الوسائل التي تقوده إلى معرفة بعض حقائقه بطريقة أو بأخرى.
ولكنَّ ذلك كله لا يمنع الإنسان من محاولة استيحاء رموز ودلائل أحلام الآخرين خاصة ما يمكن أن يفتح قلبه على آفاق الإيمان، أو يدفعه إلى تصحيح خطأ من الأخطاء، أو يمنعه من السير في طريق منحرف، فإن ذلك يعتبر أسلوباً من أساليب التوعية، ووسيلةً من وسائل الهداية، وهذا ما ينبغي أن يستفيد الدعاة إلى الله منه لدى سماع ما يرويه الآخرون من أحلامهم، لأن الأحلام بابٌ واسعٌ من أبواب الدعوة.
* * *
تفسير الرؤيا
وهكذا أراد الملك من خاصته، أن يفسّروا له رؤياه، إذا كانوا ممن يملكون هذه المعرفة، ولكنهم لم يهتدوا إلى ذلك سبيلاً، {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وتشبيه هذه الرؤيا بالأضغاث، يعود لكونها تمثّل مجموعةً من الأشياء المتفرقة في طبيعتها والتي تختلط فيها الرؤية، فقد تجذبك واحدةٌ إلى جهة، بينما تجذبك الأخرى إلى جهة ثانية، وهكذا لا تستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن تحكم على أيّ وجه من وجوه الواقع، تماماً كما هي قبضة الحشيش أو الرياحين أو القضبان، التي لا يقف من خلالها الإنسان على حقيقة، أو يعرف منها بعضاً من الواقع. وهذا ما أرادوا أن يوحوا به إلى الملك، كتعبير عن طبيعة هذا الحلم غير المفهوم، أو كتعبير عن مستوى ثقافتهم الذاتية في تفسير الأحلام كما يوحي به قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ} لنفسّر لك طبيعته ومدلوله.
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين من الزمن، {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} من خلال وسائلي الخاصة للمعرفة، {فَأَرْسِلُونِ} إلى الشخص الذي يملك سرّ المعرفة للأحلام، فقد عشت التجربة الحيّة معه إذ فسر لي رؤيا سابقة، كانت حياتي كلها الآن شاهد صدق على صحة تفسيره، وهكذا أرسله الملك وخاصته إلى يوسف، فبادره بقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}، أيّ رمزٍ هو هذا الرمز، وأيّ معنى هو هذا المعنى الذي يحتويه، لقد عجزنا عن فهمه، وعاش الجميع في حيرة من ذلك، وتحوّل الأمر إلى ما يشبه القلق على المستقبل الذي ينتظرنا جميعاً، وكلنا مشدودون إلى تفسيرك، وملهوفون إلى جوابك، فأعطنا الجواب، {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة الأمر فيطمئنون إلى مستقبل حياتهم.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} بدون انقطاعٍ {فَمَا حَصَدتُّمْ} منه {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} واحفظوه بطبيعته لئلا يتلف ويهلك، ولا تتصرفوا فيه {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} مما تحتاجونه في الغذاء بكل اقتصاد، {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} بما تواجهونه من حالة الجفاف والجدب التي تتحوّل إلى مجاعة وحرج وشدّة في أكثر من جانب، مما يجعل الناس يأكلون كل ما اختزنوه في سني الخصب والرخاء، {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } وتدّخرون وتحتفظون به من القليل القليل، كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم وأكلهم، فيقدمون لها ما ادّخروه من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم، وبذلك تصبح البقرات السمان، رمزاً لسنيّ الرخاء، والبقرات العجاف رمزاً لسنيّ الشدّة، وكذلك الحال بالنسبة للسنبلات الخضر والسنبلات اليابسات.
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فيأتيهم الغوث من الله بالمطر الذي يروي الأرض، ويغذي الينابيع، ويُرفد الأنهار، فتخصب الأرض وتخضر وتؤتي أكلها في كل موسمٍ، وينصرف الناس إلى استغلال خيرات الأرض بعصر الثمار وصناعة الدهن والشراب وغير ذلك، وتنكشف الغمة وترجع الحياة إلى طبيعتها، بعيداً عن كل العوامل الطارئة التي تمنع الأرض خصبها، والسماء بركاتها.
* * *
خطة يوسف لاجتياز الأزمة
وربما احتمل بعض المفسرين، ألاّ يكون يوسف في موقف المفسِّر للحلم الذي رآه الملك بشكل مباشر، بل كان في موقف الموجّه إلى ما يجب أن يفعله في السنين السمان والعجاف، ولهذا كان خطابه لهم أن يزرعوا دأباً، ثم أمره أن يذروه في سنبله، ولا يستثنوا منه إلا القليل مما يأكلونه، وبأن يدخروا منه في السنوات العجاف القليل مما يحصنونه، ثم ينتهي ذلك الكابوس فلا يحتاجون عند ذلك إلى ممارسة أي تحفظ غير عادي.
وهذا توجيهٌ قريبٌ إلى الجوّ التعبيري في الآيات، وربما قصد من ذلك الإيحاء بأنه يملك الخطة التي تنظّم لهم اجتياز الأزمة الخانقة في زمن الشدّة، عبر تحقيق التوازن في زمن الرخاء، كوسيلةٍ من وسائل دخوله في الموقع الاجتماعي من مركز قوة.
تفسير القرآن