تفسير القرآن
يوسف / من الآية 50 إلى الآية 53

 من الآية 50 الى الآية 53
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ* قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ* وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (50ـ53).

* * *

معاني المفردات

{مَا بَالُ النِّسْوَةِ}: أي ما شأنهن.

{مَا خَطْبُكُنَّ}: الخطب: الأمر الذي يعظم شأنه.

{حَصْحَصَ}: بانت حصة الحق.

* * *

تفسير الحلم أثار اهتمام الملك

وجاء هذا الساقي بالتفسير الموجّه للحُلُم الملكي الذي أثار في وجدان الملك الإحساس بخطورة الوضع الاقتصادي لحياة الناس مستقبلاً، إذ سيتراوح وضعهم بين التخمة، والمجاعة، كما يبين الحلم الغريب، وربما شعر بأن هذا الرجل الذي أعطى التفسير لهذا الحلم، يملك فكراً عميقاً، وذهناً منفتحاً أثار في نفسه الرغبة في التعرّف إليه، والاستفادة منه، والاستعانة به في مواجهة المشاكل التي يمكن أن تطرأ مستقبلاً، ولعله ربط بين تفسير الحلم في هذا الاتجاه، وبين خبرته في هذا المجال، وهكذا أبدى رغبته في استقدامه إليه، وإخراجه من ظلام السجن.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} لأعرف تفاصيل هذا التفسير، فإن الذي أطلق الفكرة من خلال الحلم لا بد أن يكون مطّلعاً على تفاصيلها، لا سيّما في ما نلاحظه من خطورة المستقبل الذي يطلّ عليه. وذهب الرسول يستدعي يوسف، إلى الملك، ويستحثه للخروج من السجن والقدوم إلى أجواء الحرية، حيث ينتظره جاه عريض قد يحصل عليه بحظوته لدى الملك الذي استطاع أن يثير اهتمامه الكبير.

* * *

يوسف(ع) يطالب بإظهار براءته

على أن يوسف الذي شعر أن المستقبل ينتظره من موقع الحاجة إلى ما يحمله من معرفة لم يلهث وراء ذلك كله، ولم ينبهر به، لأنه يعرف أن الله الذي علّمه تأويل الأحلام، هو الذي يدبّر أموره، فيعزّز له مواقعه في هذه الساحة وفي الساحات الأخرى، ولهذا تحدث مع الرسول من موقع الإنسان الواثق بنفسه وبدوره، من خلال ثقته بربه، فأراد أن يبرز من موقع الماضي النظيف الطاهر الذي حاولت امرأة العزيز وصويحباتها، أن يشوّهنه بالأساليب الإعلامية المضادّة التي حاولت إظهاره كإنسان يتحرّك من مواقع الغريزة الجنسية، ليعبث ويراود ويستجيب للمراودة ويعتدي، ويدخل السجن بسبب ذلك؛ لقد أراد أن يخرج من السجن خروج الأبرياء الذين دخلوه ظلماً دون أيّ ذنب، لأن الذنب الذي نسب إليه لا يمثل شيئاً من الحقيقة.

{فَلَمَّا جَآءهُ الرَّسُولُ} وطلب منه المجيء إلى الملك والاستجابة لرغبته في الحضور عنده، {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وسيّدك، وبلّغه أني أخرج من السجن إلا بعد أن يظهر براءتي من التهمة التي وجّهت إلي، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وأردن منه الاستجابة لرغبتهن، وعندما رفض ذلك كدن له، بتلفيق تهمة الاعتداء ضدّه، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فهو يعلم خفايا أمورهن، وأسرارهن والإساءة له.

* * *

حصحص الحق وظهر

وأرسل الملك في استدعاء النسوة، ومن بينهن امرأة العزيز {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} هل رأيتن فيه سوء،اً واستجابةً لهذا النوع من الإغراء؟ وهل قام بمبادرة معيّنة في هذا الاتجاه؟ فليس من الطبيعيّ ألاّ يكون له دخلٌ في هذا الجو العابق بالشهوة والإغراء، ما شأنكن في ذلك كله، وما دوركنّ فيه؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} فلم تكن المراودة منّا له نتيجة لقبوله بذلك، واستعداده للتجاوب، لأننا لم نلمح في نظراته وفي حركاته، وفي طريقته في الكلام، وبالتصرف أيّ شيء يوحي بالسوء من ناحية الأخلاق، فقد كان بناؤه الأخلاقي ثابتاً متيناً، وبهذا برّأن يوسف من كل ما نُسب إليه.

وتوجهت الأنظار إلى امرأة العزيز التي لم تعبّر بعدُ عن نظرتها للمسألة، وهي المسؤولة الأولى عما حصل، ولكنها عاشت يقظة ضمير، ووقفت وجهاً لوجه أمام الحقيقة، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} وظهر، ولا بدّ لي من الاعتراف به، لما أعيشه من تأنيب الضمير، نتيجة ما سببّته له من آلام ومشاكل خارج السجن وداخله، جراء الاتهامات الباطلة التي نسبتها إليه في محاولة الاعتداء عليّ، {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في نفيه التهمة عن نفسه، وإثباتها عليَّ... وهكذا حصل يوسف على الاعتراف الواضح الصريح بشكلٍ لا يقبل الشك، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ولم أتحدث عنه بسوء في غيبته، فلم يحصل مني ضدّه أي كلام سيىء إلا ما قلته في حضوره في بداية الأمر، فقد أخطأت معه، ولكني لم أخن سمعته، لأني أعلم أن الخيانة لا تجدي نفعاً، {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} بل يكشف كيدهم بأكثر من وسيلة، فيقفون في موقف الخزي والعار أمام الجميع، وهذا ما لا أريده لنفسي.

{وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي} في ما عملته وأقدمت عليه، لأنها ككل النفوس التي تتحرك فيها الغرائز، وتثور فيها الشهوات لتدفع أصحابها إلى الخطيئة، {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} بما يكمن في داخلها من نوازع السوء وتهاويله، {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} في ما يعصم الإنسان، ويثيره في نفسه من عوامل الهداية، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر الذنب لمن تاب وأناب إليه، ويرحم عبده الذي يسقط أمام نقاط الضعف، ثم يحاول أن يستقيم ليتابع السير في خط الطاعة والإيمان.

* * *

يوسف(ع) يُخضع المجتمع لإيمانه القوي

وهكذا وقفت هذه المرأة المتمرّدة المتعالية، خاشعةً أمام الله، في موقف نقدٍ ذاتيٍّ يدفعها إلى الجهر بالحقيقة التي كانت تحاول إخفاءها وإلصاق التهمة بيوسف، مرتكزةً في ذلك على القيم الفاسدة للمجتمع التي تعطي للقويّ الحقّ في إلصاق التهمة بالضعيف، وإدخاله السجن على ذنبٍ لم يرتكبه، ويبقى القوي خارج دائرة الإدانة، لأنه فوق مستوى الاتهام، على أساس التقاليد الطبقيّة، التي تجعل العدالة خاضعةً للتمييز العنصري، وقد كان لثبات يوسف بإيمانه القويّ، وشعوره بالقوّة الكبيرة داخل ذاته، وإصراره على تحمل أقسى الالام مستقيماً على خط الرسالة أكبر الأثر في إخضاع المجتمع، الذي تمثل امرأة العزيز القمّة فيه، كما أضاف حاجة الملك إليه، عنصر قوة جديدة إلى رصيده قرّبه من مستوى الطبقة التي أدانته إن لم ترفعه فوقها، مما أحدث هزّةً عنيفةً في داخل الشعور، وحركةً يَقظَةً في أعماق الضمير، وهذا ما ساهم بإيضاح الحقيقة وإعلانها أمام الملأ، لا سَيّما أن الملك يريد ذلك.

ولم تقف القضية عند حاجة الملك، بل امتدّت إلى داخل الروح، لتتحوّل إلى حالة مناجاةٍ ذاتيةٍ، تضع الظاهرة المنحرفة في موقعها الطبيعيّ من حركة الغرائز في داخل الجسد وحركة الانحراف في واقع النفس، لأن الغرائز عندما تستيقظ في الجسد وتلتهب، توحي للنفس بمختلف الأفكار والأهواء، وتدفعها إلى التمرد والعصيان والانحراف، ولكنها لا تقف أمام ذلك، في دائرة القضاء الحتميّ الذي لا فكاك منه، بل يمكن لها أن تتحرر منه في آفاق رحمة الله التي توحي للنفس بالهداية، وللخطوات بالاستقامة، وللإرادة المنحرفة بالتراجع نحو الإرادة المستقيمة، وهذا ما يعيشه الإنسان بين يدي الله في وقفته الخاشعة في حالة التوبة التي تتعلق بمغفرة الله ورحمته ليفسح لها المجال في رضوانه، ويقبلها في خطّ هداه.

وقد نستوحي من موقف يوسف المتعالي على السجن، الواثق بنفسه، كيف يمكن للمؤمن العامل في سبيل الله، الداعي إلى دينه، أن يملك الإصرار على موقفه، في مواقع التحدي، ويتحمل الألم والحرمان، ليعطي الصورة الواضحة عن قوّة الموقف الإيماني المرتكز على العقيدة الحقّة، وليدفع الآخرين إلى التراجع عن مواقفهم المهزوزة، والانتقال إلى الخط الصحيح الذي يؤديّ بهم إلى الخير والرحمة والفلاح.