تفسير القرآن
يوسف / من الآية 54 إلى الآية 57

 من الآية 54 الى الآية 57
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلأجْرُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (54ـ57).

* * *

معاني المفردات

{أَسْتَخْلِصْهُ}: أجعله خالصاً لنفسي.

{مِكِينٌ}: المكين: صاحب المكانة والمنزلة.

* * *

الملك يستخلصه لعلمه وأمانته

... وهكذا برز يوسف كشخصية مميّزة أمام الملك، فهو يملك العلم والخبرة اللذين يؤهلانه للتخطيط للحكم، وللدولة بشكل سليم، كما يملك الطهارة الأخلاقية، والعمق الروحي اللذين يساعدانه على سلامة التنفيذ، دون أيّ خلل أو انحراف، مما يضيف قوّة جديدة للحكم متمكنة من إدارة الدولة بطريقة ناجحة، ومعالجة للمشاكل الصعبة، والأزمات الخانقة. وهكذا فكر الملك أن يستدعيه ليساعده على إدارة أمور الدولة.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} لأني بحاجة إلى العقل الذي يفكر، والإرادة التي تحسم، والأمانة التي تحفظ، والوداعة التي تحب وترعى وتحنو، وهذا ما لم أجده لدى كثيرين ممن يجتمعون حولي لأجل أطماعهم وشهواتهم، إذ أن قربهم من الحاكم يتيح لهم بعض فرص الحكم للعبث والسرقة والظلم ما توفرت الفرص المناسبة لذلك. وجاء يوسف بعد أن حصل على البراءة من التهمة التي أُلصقت به، ليتحمل المسؤولية من موقع التاريخ المشرق الطاهر الذي لا تلوثه جموح الغرائز في اتجاه الجنس المنحرف، ولا يسقطه الضعف المتهالك أمام حالات التحدي.

لقد جاء يحمل في شخصيته، الوعي والقوة والثقة بالموقع وبالنفس، وبالروح التي تشعر بأنها ليست بحاجة إلى الآخرين، لتسقط أمام رغباتهم، بل إن الآخرين هم الذين يشعرون بالحاجة إليها، لتفرض عليهم شروطها. وهكذا قابل يوسف الملك، الذي عبّر أمام الناس أنه يريد أن يستخلصه لنفسه، ليستفيد من طاقاته أعظم استفادة، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} عرف طبيعة القوّة التي يتمتع بها، والعقل الذي يحمله، والشخصية الصلبة التي يملكها، {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} فلك المكانة التي تتيح لك تنفيذ كل رغباتك، ولك منا الثقة التي تجعلنا نأتمنك على كل شيء، فاطلب ما تريد من مواقع المسؤولية، لأنك تعرف حجم قدراتك وطبيعة خبرتك في إدارة أمور المجالات التي ترتئيها.

لقد أراد أن يتحمل المسؤولية، التي لم يطلبها يوسف لنفسه، بل كانت تكليفاً من الملك في ما نستوحيه من التأكيد على مكانته المفضلة لديه، وإعلانه الثقة بأمانته. وهكذا اقترح يوسف عليه أن يعهد إليه بمسؤولية الجانب الاقتصادي، لأنه يملك المؤهلات والخبرة التي تمكنه من إنجاح خطته المرسومة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي تواجه البلد، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ} وهكذا طلب من الملك أن يعهد إليه أمر حفظ وتدبير الشأن المالي على مستوى الصرف والرعاية، وإدارة الموارد والمصادر، بما يملكه من علم، وكأنّه يريد أن يقول له: إنه سيكون في مستوى الثقة التي وضعها فيه.

وهكذا كان، فقد عهد إليه الملك إدارة الشؤون الاقتصادية للبلد، وأصبح بذلك في موقع كبير يستطيع من خلاله، تحقيق هدفه في إقامة العدل، ورعاية المستضعفين، فهو ليس من الذين يزحفون إلى المواقع المتقدمة في المجتمع، أو في الدولة، لأجل طموحات ذاتية، ولو كان يسعى إلى شيء من هذا القبيل لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام التي تحملها في السجن، وفي خارجه كي يبقى في ساحة الإيمان، بعيداً عن كل أجواء الانحراف... إنه صاحب رسالة، ولهذا فإنه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة الناس من خلال بعض المواقع المتقدمة في الدولة.

* * *

بين الإصلاح الجزئي والحل الشامل

ونستطيع أن نستوحي من هذا الموقف، أن بإمكان المؤمنين الاستفادة من بعض الفرص السياسية والاجتماعية التي تمنحهم حرية الحركة، وتسهّل لهم أمر تطبيق مبادىء الإسلام في بعض مجالات الحياة، فلا يجب عليهم ـ من وجهة النظر هذه ـ أن ينتظروا إقامة الدولة التي تخطط للساحة كلها، بل يمكنهم أن يعملوا على سدّ بعض الفراغات، وحلّ بعض المشاكل، واحتلال بعض المواقع، التي تمكّنهم من إصلاح بعض قضايا الواقع، لأن الله يريد للإنسان أن يساهم في حل ما يمكن حلّه، دون انتظار للحل الشامل.

ولكنّ سلوك مثل هذا التوجه، يتوقف على ألاّ تكون فرصة الحل الكامل جاهزةً على الطريق، ولا تحتاج سوى بعض الخطوات التنفيذيّة للوصول إليها، فإن الموقف حينئذ يتبدل باتجاه العمل على رفع كل الحواجز التي تعيق الوصول إلى الهدف الكبير، وبذلك يكون الإصلاح الجزئي عملاً غير صحيح، لأنه يعطّل الحركة السريعة نحو تحقيق النتائج الكبيرة، ويجمّد حالة التوتر الضروري لدفع عملية الوصول. إننا نريد استيحاء هذا المبدأ من قصة يوسف، في مواجهة الرأي القائل بضرورة الابتعاد عن مؤسسات المجتمع غير المؤمن، ويؤكد على الثورة الشاملة، ويرفض الإصلاح الجزئي بقطع النظر عن الظروف التي قد تفرض تأخير الوصول إلى الثورة الشاملة.

* * *

سر العبودية ومكانة يوسف(ع)

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} بما استطاع أن يحصل عليه ـ من خلال العناية الإلهية التي شملت تاريخه ـ من سلطة مطلقة في أمور الدولة، بحيث أصبحت الأرض، هناك، تحت سلطته، له أن يتحرك فيها حيث يشاء بوصفه حاكماً مطاعاً يخضع الجميع لإرادته. وتلك هي رحمة الله التي يشمل بها عباده المؤمنين الذين يخلصون له العبودية، ويلتزمون خط الطاعة، فلا ينحرفون تحت عوامل الإغراء أو القهر أو التهديد، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ} لأن الأمر لله في كل شيء فإذا أراد شيئاً تحقق، {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا لله القول والعمل، فأثابهم الله برحمته التي تتسع لكل خير في دنياهم في ما يمكِّن لهم من الملك أو في ما يحلّ لهم من المشاكل، {وَلأجْرُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} لأن أجر الدنيا زائل، مهما كان كبيراً وعظيماً، بينما يشمل أجر الآخرة كل حياة الإنسان في النعيم الخالد، في رحاب الله التي لا نهاية زمنية لامتدادها.

وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن يفكروا به، كهدفٍ كبيرٍ من أهداف تضحياتهم الكبرى، وذلك بأن يحصلوا على ثواب الله في الآخرة، لأنه الثواب الباقي، ولا يجعلوا من ثواب الدنيا كل همّهم بل بعضاً من ذلك، فالإخلاص لله لا ينفي أن يطلب الإنسان الدنيا من الله، كما يطلب الآخرة منه، لأن سرّ العبودية هو أن تخضع لله، باعتباره المرجع الوحيد لك في كل طلباتك، دون فرق بين أن تكون طلباتك للدنيا أو للآخرة، مع التأكيد على القيمة الكبيرة لثواب الآخرة مقابل ثواب الدنيا. وبذلك يحقق الإيمان العملي لحياة الإنسان التوازن بين حاجات الجسد، وأشواق الروح، ويحتوي تطلعاته، في آفاق الدنيا، ورحاب الآخرة، فلا يعزله عن اهتمامات الدنيا، شريطة أن تكون مرتبطة خطاً وهدفاً بالآخرة، كقيمة تحكم الواقع لتبعث فيه الروح وتمنع عنه التجمد في نطاق المادة.

ولا بد للمؤمنين ـ من ناحية أخرى ـ أن يضعوا في حساباتهم بأن القرب من الله، والتمتع بفيض رحمته وإحسانه، يتوقف على أن يعيش الإنسان الإحسان في قوله وفي عمله، لأن الله يجازي الإحسان بالإحسان، فلا يمنع رحمته عن المحسنين.