تفسير القرآن
يوسف / من الآية 58 إلى الآية 62

 من الآية 58 الى الآية 62
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ* وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ* وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(58ـ62).

* * *

معاني المفردات

{مُنكِرُونَ}: لم يعرفوه.

{جَهَّزَهُم}: حمَّلهم الجهاز، وهو ما يعد من متاع وغيره، والمراد به هنا الطعام الذي جاءوا من أجله.

{رِحَالِهِمْ }: الرحال: جمع رحل، وهو ما يوضع على ظهر الدابة كالسرج، والمراد به هنا: أوعيتهم التي توضع فوق السرج ونحوه.

{انْقَلَبُواْ }: رجعوا.

* * *

السنوات العجاف

... ومرت الأيام.. وابتعد يوسف عن أهله.. وابتعدوا عنه.. وربما نسيهم بعد انقطاع أخبارهم عنه، وربما نسوه بعد انقطاع أخباره عنهم.. وتحول الجميع لدى بعضهم البعض إلى ذكرى تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة.

وجاءت السنوات العجاف، وأجدبت الأرض، وقلّ النتاج أو انعدم، وضاقت أحوال الناس في أرضهم، وبدأوا يبحثون عن الطعام في مناطق أخرى لم يزحف إليها الجدب، أو لم يترك أثره الكبير عليها. وكانت فلسطين التي يقيم فيها النبي يعقوب وأهله، إحدى المناطق التي عرض عليها الجدب، واشتد فيها الأمر على الناس، وربما سمعوا أن عزيز مصر قد فتح خزائن الطعام للناس، وأنه يوزعها بينهم بطريقة عادلة، وقد كانت مصر الخصبة في أرضها ونيلها سوقاً للمناطق القريبة منها. وهكذا أعدَّ إخوة يوسف العدة للسفر إليها، ليجلبوا منها الطعام إلى أهاليهم، وذلك بطريقة تجارية يستبدلون فيها بضاعة ببضاعة، أو بنقد.

* * *

وجاء إخوة يوسف(ع)

{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} لأنه كان المسؤول الأوّل عن توزيع الطعام، بناءً على الخطة الاقتصادية التي وضعها، مما يفرض أن يكون المشرف على عملية التنفيذ، فكان يستقبل القادمين للشراء، ويتفاوض معهم على مقدار ما يطلبونه من طعام، وما يدفعونه من سعر، {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لأنه كان صغيراً عندما فارقوه، وربما تغيّر الكثير من ملامحه الظاهرة، وربما لكونهم لا يحتملون وجوده في هذه المواقع، لأن طبيعة الظروف التي أحاطت به لا تسمح بذلك، لا سيما وأن القافلة التي عثرت عليه باعته، كعبد في أسواق النخاسة، الأمر الذي جعلهم يستبعدون الفكرة حتى لو قربتها إلى أذهانهم بعض الملامح البارزة في وجهه. ومن المعلوم، أن عملية الاستذكار، تحتاج إلى حالة ذهنيّة معينة قادرة على ربط معطيات الماضي بالحاضر، وإلا بقي الواقع مجرد حالة حيادية لا توحي إلاّ بما يتحرك حولها من أحاسيس محدودة بالحاضر. أما بالنسبة ليوسف، فقد كانت ملامحهم في ذهنه، لأنهم كانوا كباراً عندما فارقهم، ولم يحدث في حياتهم تغيير يذكر، يبعد الصورة البارزة لديه. لهذا كانت رؤيته لهم، بمثابة الصدمة التي أعادته إلى الماضي، وربّما يكون قد ساهم في ذلك أنهم كانوا قد ذكروا أسماءهم، ومواقع بلادهم عند قدومهم، فمن المتعارف لدى الناس، سؤال الغرباء عن هويتهم وبلادهم.

وهكذا عرضوا على يوسف، ما جاءوا لأجله فقدّم لهم كل ما يريدون، وزاد لهم في الكيل، وأكرم وفادتهم. وربما كان من الطبيعيّ، أن يدور بينه وبينهم حديث عن حياتهم وعن أبيهم وأهلهم لاتصال ذلك باهتمامات يوسف، فلا بد له أن يسأل، بعد أن عرفهم، عن التفاصيل التي تهمه من أمرهم، ومن أمر من يحبهم، بالطريقة التي لا تثير انتباههم واستغرابهم، وقد يكون الحديث قد وصل بهم إلى ذكر أخ شقيق لهم وآخر غير شقيق عندما حدثوه عن عددهم، وعن أشياء أخرى لم يتعرض لها القرآن، لأن أسلوبه، في القصة، يتناول المواقف المهمة في حركة الشخص أو القضية دون الدخول في التفاصيل الصغيرة.

* * *

طلب أخاه وعمّق الثقة معهم

{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} وأرادوا أن يرحلوا إلى بلادهم، وجاءوا ليودّعوه، وعرف منهم أنّهم سيعودون من جديد، ليأخذوا مقداراً آخر من الطعام، لأن مشكلة فقدان الغذاء التي يعيشونها ستستمر لفترة طويلة، {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} لأتعرف عليه، كما تعرّفت عليكم، ولأكرم وفادته كما أكرمت وفادتكم، لأن هذا التعارف بيننا قد أوجد رابطةً وثيقةً، لا بد لها أن تمتد إلى جميع أفراد العائلة، {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِى الْكَيْلَ} فقد أعطيتكم حقكم وافياً، ولم أستغل حاجتكم إليّ، لأنقص كيلكم، كما يفعل المحتكرون، {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} باستضافتي لكم في المنزل الرحب الذي وجدتم فيه كل إعزاز وإكرام... {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} فهذا هو شرط استمرار التعاون بيننا، فامتناعكم عن المجيء به إليّ، لأتعرّف عليه، يوحي بعدم الثقة بي، ويدلّ على عدم احترامكم لطلباتي التي أحاول من خلالها توثيق الصلة بكم. لعلّ إخوة يوسف قد استغربوا هذا الطلب، أو فهموه كدليلٍ من دلائل المودّة التي يظهرها يوسف لهم، وأثاروا الحديث معه، حول صعوبة تنفيذ هذا الطلب، لأن هذا الولد محبوبٌ لدى أبيه إلى درجة عدم مقدرته على مفارقته، وقد لا يثق بنا، في المحافظة عليه، لأنه أخٌ غير شقيق. ووعدوه بالتجربة لتحقيق طلبه {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} من أجل تنفيذ طلبك الهادف لتعميق الثقة بيننا، واستمرار علاقتنا في المستقبل.

وأراد يوسف أن يؤكد الجو الحميم لعلاقته بهم، ليدفعهم إلى العودة إليه، بعد أن يؤكدوا طبيعة الصلة الوثيقة التي تربطه بهم لدى أهلهم، {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} الذين يساعدونه في إدارة عملية التجارة، {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} وأرجعوها إليهم حتى يكون ما أخذوه مجاناً {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} فيجدون فيها المفاجأة الكريمة التي توحي بالثقة، وتدفع إلى العودة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلينا في سفرة جديدة.