تفسير القرآن
يوسف / من الآية 63 إلى الآية 68

 من الآية 63 الى الآية 68
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ* قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ* وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ* قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ* وَقَالَ يبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ* وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(63ـ68).

* * *

معاني المفردات

{وَنَمِيرُ}: أي نجلب المِيرة، بكسر الميم، وهي: الطعام.

{كَيْلَ بَعِيرٍ}: حَمْلَهُ.

{مَوْثِقًا}: عهداً.

{يُحَاطَ بِكُمْ}: تُغلبوا على أمركم.

* * *

أرسل معنا أخانا

... وعاد إخوة يوسف من مصر إلى بلادهم، يحملون الطعام لأهلهم، كما يحملون همَّ إقناع أبيهم بإرسال أخيهم معهم إلى عزيز مصر، ليتمكنوا من الاستمرار في التجارة الرابحة التي وجدوا فيها الحلّ لمشكلتهم الاقتصادية، لأن توثيق العلاقة بالعزيز يسهل ذلك، بينما يؤدي تعقيد العلاقة به، إلى مزيد من الخسارة والحرمان. لقد كانوا يعيشون هذا الهمّ في نفوسهم، لأنهم كانوا يعلمون أن أباهم لا يثق بأنهم سيحافظون على أخيهم، فقد سبق أن وافقهم على خروج أخيهم يوسف معهم، فجاءوا إليه في المساء، يحملون قميصه الملطّخ بالدم الكاذب، زاعمين أن الذئب قد أكله. ولكنهم اتفقوا على مواجهة الموضوع بحزمٍ عاطفيٍّ معه، مقتنعين بأنه سيخضع لهذا الطلب، تحت تأثير الحاجة الناشئة عن الأزمة التي يعيشها الجميع.

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} واستراحوا إليه، وأخذوا يحدثونه عمّا قالوه وما عملوه، وما جاءوا به من الطعام، وما لقوه من العزيز من حسن وفادة وجميل رعاية، حتى إذا وصلوا إلى حديث العودة من جديد، للحصول على ما يحتاجونه من الطعام مرّة ثانية، بعد نفاذ ما جاءوا به، ذكروا له الشرط الصعب الذي اشترطه العزيز عليهم، {قَالُواْ يا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} في المرة الثانية، إلا أن يكون معنا أخونا غير الشقيق، ليكتمل عددنا أمام العزيز، {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ} الطعام الذي نحتاج إليه، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للحصول على الكيل، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} في تأكيد يستهدف زرع الثقة في نفسه من خلال المواثيق التي يعطونها له، لإذهاب القلق من نفسه.

* * *

الله خير حافظاً

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} فقد أكدتم لي ما تحاولون تأكيده الان بالأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة، وسقطت كل تأكيداتكم أمام المأساة التي لم تستطيعوا تقديم حجة قاطعة لي تثبت براءتكم منها في ما أقدمتم عليه، أو في ما قصرتم به. ولكن ماذا أفعل أمام إلحاحكم الشديد، في ظل ما نعيشه من أزمة خانقة، لا تسمح لي بحرية اختيار ما أريده، وما لا أريده. ولكن تعجّبي من هذا الشرط لا ينقضي، فما علاقة العزيز بأخيكم، وما دخل عملية الكيل التي هي عملية محض تجارية بهذا كله؟ فلأسلّم الأمر إلى الله، فأرسله معكم، مبتهلاً إليه تعالى أن يحفظه من كيد الكائدين، وبغي الظالمين، فهو الملاذ في كل الأحوال، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ} فليس لنا إلا رحمته التي وسعت كل شيء، منها وجودنا ومنها استمرار كل نعم الحياة حولنا.

* * *

إعطاء المواثيق

وتمت المسألة بسلام، وحصلوا على الموافقة، التي أرادوها في شأن إرسال أخيهم معهم، وبدأوا يفتحون الأكياس، وهنا كانت المفاجأة، فهذا هو متاعهم الذي دفعوه للعزيز بدلاً عن الطعام الذي اشتروه منه بمثابة الحجة القاطعة على ما يؤكد الثقة بالعزيز، وحسن إخلاصه لهم، وأنه لا يريد بهم إلا خيراً، {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مَا نَبْغِي} وما نريد أكثر من هذا الذي فاجأنا الان، ولم نكن على علم به عندما فارقنا العزيز، {هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} فلننطلق على بركة الله من موقع الثقة، بقلب قويّ مطمئن {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} ونجلب لهم الطعام، {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بما نحفظ به أنفسنا من كل سوء، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} في ما نؤمله من كرم العزيز الذي شاهدناه، {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} فقد كان القلق يفترس مشاعره، ويأكل قلبه، مما جعله يعيش الصراع بين الإذن لهم في اصطحابه معهم، وبين الامتناع عن ذلك، لأن تجربته السابقة معهم كانت حاضرة في ذهنه وقلبه وتوحي له بعدم الثقة بهم. إنه يبحث عن أساس للثقة، لا مجال لتحصيله إلا بالكشف عن المستقبل من خلال الغيب ليحصل على الاطمئنان، فطلب منهم أن يعطوه المواثيق على الالتزام بحمايته، بكل ما يملكون من إمكانات ووسائل، بحيث يستنفذون كل إمكاناتهم في هذا السبيل، ولا يبقى لهم مجال لاستخدام اية وسيلة ممكنة إلا إذا كان هناك جمع كبير يحيط بهم مما لا يستطيعون الثبات أمامه، وهذا ما يُعذر به الناس في مثل هذه الأمور. وهكذا طلب منهم أن يحلفوا، ويعطوا المواثيق والعهود على ذلك كله {فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فهو الشاهد على ذلك، وهو الكفيل بإتمامه، لأنه المهيمن على الأمر كله.

* * *

حاجة في نفس يعقوب!

وبذلك استطاع أن يوحي لنفسه بالثقة، فارتاحت مشاعره من الشك والقلق، وانسابت عاطفته، لتحتوي أولاده كلهم من جديد، عندما أراد أن يودعهم، فقد خاف عليهم من حسد الحاسدين، لما يمكن أن يثيره دخولهم دفعةً واحدةً إلى المجلس الذي يجتمع إليه الناس من الدهشة والإعجاب بهذه المجموعة من الإخوة الرجال الذين يملكون القوّة في الجسد والتوافق في الرأي، والوحدة في الموقف، فأراد أن ينصحهم بنصيحة أبويّة تبعدهم عن أجواء الحسد الذي يبعث على الكيد والتآمر من قبل الحاسدين.

{وَقَالَ يا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} فإن ذلك قد يشكل إثارة في نفوس الحاضرين، فيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، {وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} كي تضيع الصورة الحقيقية القوية بذلك، ولا تلفتوا الأنظار إليكم. وليس في هذا ما يمنع القضاء إذا أراد الله له أن يحدث، ولكنه قلق الوالد على أولاده الذي يبحث عن أية وسيلة لحمايتهم، عبر رعايته المباشرة لهم أو عبر تزويدهم بوصايا ونصائح تكفل لهم ذلك، {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} إن أراد بكم سوءاً فهو المالك لكل شيء، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} في كل أمور عباده، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} في إرجاع كل القضايا إليه، فهو المعوّل عليه في الشدّة والرّخاء.

{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} لأن مثل هذه الوسائل لا تمنع الخطة المرسومة التي يريد الله للناس أن يخضعوا لها في قضائه وقدره في علاقة المسبّبات بالأسباب، فإذا أراد الله شيئاً هيّأ أسبابه. وهكذا لم يُرد يعقوب أن يغيّر القضاء، أو يعطّل الأسباب {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} في ما كان يريده لهم من تحفظ يبعدهم عن المشاكل من بعض النواحي. ولم نعرف ـ من خلال القرآن ـ نوعية هذه الحاجة بالتحديد، لكن ربّما كانت حالةً من الطمأنينة الداخلية التي أراد أن يعيشها في نفسه، وربما كانت حاجته الملحة إلى رجوع يوسف إليه، التي هيّأ الله له أسباب تحقيقها في سفر إخوته مع أخيهم غير الشقيق إليه، الذي انتهى بلقاء يوسف وأخيه لأبيه وأمه، وبذلك يكون الضمير في «قضاها» راجعاً إلى الله، لا إلى يعقوب ـ كما يذهب إلى ذلك بعض المفسرين ـ ، وربما كانت تلك الحاجة شيئاً لا نعلمه، مما قد يكون معلوماً لدى يعقوب مما علّمه الله إياه من أسرار الغيب في ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}. ولعلَّ المراد به العلم الخاص الذي يلهم الله به الأنبياء أو يوحي به إليهم من علمه، الذي لا يريد أن يبينوه، بل يريد لهم أن يعيشوه، ويكتفوا في تبيانه على طريقة الإشعار أو الإيحاء لمصلحة ما هناك. {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم يتعاملون في أمورهم من خلال الرؤية المحدودة للأشياء، مما يحجب عنهم الكثير من الأسرار التي تختفي في غيب المستقبل، أو في خلفيات الحاضر.