من الآية 69 الى الآية 76
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ* قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ* قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ* قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ* قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ* قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (69ـ76).
* * *
معاني المفردات
{آوَى}: ضمه إليه.
{تَبْتَئِسْ}: تحزن.
{السِّقَاية}: وعاء يسقى به.
{بَعِيرٍ}: الإبل.
{صُوَاعَ}: المكيال.
{زَعِيمٌ}: كفيل.
* * *
خطته لاستبقاء أخيه
... ووصل الإخوة إلى مصر، ومعهم أخوهم غير الشقيق {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ} وسلّموا عليه، وعرّفوه على أخيهم، {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} وقرّبه إليه وحدثه بحميميّةٍ توحي بأن هناك علاقةً غير عادية بينه وبينه، وانفرد به أو همس في أذنه بشكل مفاجىء بالحقيقة الصارخة التي هزّت أخاه الذي ربما كان قد نسي يوسف، {قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوك} الشقيق، فلا تشعر بالوحدة معهم، لما تلاقيه من اجتماعهم مع بعضهم، وانفرادهم دونك، {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ولا تحمل همَّ ما كان يصدر منهم نحوك، فهذا أوان الفرج والانفتاح على الحياة، من خلال المحبّة الصادقة والأخوة المخلصة الطاهرة، ولن ترجع إليهم لتعود إلى حياة القهر والإيذاء. وأخذ يدبّر الخطة التي يستطيع بواسطتها العذر في استبقائه عنده، والحجة التي تبرر ذلك أمامهم دون أن يضطر إلى استعمال العنف ضدّهم للوصول إلى إقناعهم بذلك، لأنه لا يريد أن يُبطل الفكرة الطيبة العادلة التي حملوها عنه.
* * *
بين الغاية والوسيلة
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} وهي الصاع التي كانت تستعمل للسقاية، فقد أمر فتيانه أن يجعلوها في متاع أخيه، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} وصاح صائح رافعاً صوته للإعلام بوجود شيء مفقود في رحل القافلة، {أَيَّتُهَا الْعِير} أي القافلة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}.
هل ذلك حكم عليهم بالسرقة؟ ولكن كيف ذلك وهم لم يسرقوا؟ هل هو وارد على سبيل التورية؟ على أساس سرقتهم ليوسف من أبيهم، وبيعهم له، أو أنه مجرد توجيه للتهمة من ناحية شكليّة على سبيل الاستفهام، من أجل الوصول إلى ما توخاه يوسف من احتواء أخيه عنده؟ وقد لا يكون في ذلك اية مشكلة ما دامت الغاية نظيفةً، والوسيلة لا تضر أحداً، لأن المسألة لا تعدو أن تكون مجّرد ضغط نفسيٍّ على إخوة يوسف، بما يتضمنه الموقف من إحراج لهم أمام أبيهم، ولكنه لا يؤذيهم في شيء، بل قد ينفّس عقدتهم ضد يوسف وأخيه، فقد تكون هذه الحادثة فرصةً للتشفي من هذا الأخ الذي حلّ محل يوسف في قلب أبيه دون أن يملكوا فعل شيءٍ حياله، لا سيما أن الأب ما زال يعيش همّ يوسف في نظراته إليهم التي لا تخلو من ملامح الاتهام.
وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهميّة، لأنها بذلك تنظّف الوسيلة، وتطهّرها. وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتهامهم بالسرقة، وفوجىء هؤلاء الشباب بالتهمة، فهم لم يسرقوا لأنهم ليسوا بحاجة إلى السرقة، بالإضافة إلى أنهم يعرفون ما فعلوا، الأمر الذي يثبت براءتهم، أما أخوهم غير الشقيق فليس في تاريخه حالة سرقة، مما جعلهم يجزمون بأن التهمة ناشئةٌ من سوء تفاهم، أو من سوء فهم للواقع. لقد كان النداء صدمة كبيرة لهم، ومفاجأة سيئة.
{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} حتى تتهمونا بالسرقة؟ {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} وهو صواعٌ مميزٌ لا يمكن أن نتسامح به، لأنه يخصّ الملك، لذا فإن الحصول عليه أمر غاية في الأهمية، ولمن يأتي به جائزةٌ كبيرة، {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي كفيل، قالها المنادي للإيحاء بالثقة بأنّه هو يضمن حصول من يأتي بالصواع على الجائزة، إذا لم يستطع الوصول إلى الملك الذي أمر بها. وربما كان في ذلك ما يخفّف من وقع التهمة، فقد تحرك إعلان المنادي بالشكل الذي يوحي وكأن فقدان الصاع قد لا يكون نتيجة سرقة، بل نتيجة ضياعه بين الأدوات خطأً، أو شبه خطأ، ولهذا حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم، ويظهروا براءة ساحتهم.
* * *
التدبير الإلهي الخفي
{قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ} فقد عرفتم سلوكنا وطريقتنا في التعامل معكم، وربما يذكر بعض المفسرين أن إخوة يوسف أعادوا البضاعة التي وضعها يوسف في رحالهم ظناً منهم أن في الأمر خطأً ما، مما يوحي بأمانتهم. ولكن مثل هذا غير دقيق، بلحاظ كلامهم مع أبيهم الذي كان يوحي بأنهم كانوا مقتنعين بأن هذه البضاعة قد ردّت إليهم، إحساناً وترغيباً لهم في الرجوع. ومهما كانت المسألة، فها هم يقفون ليشهدوهم بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض بالعبث بأملاك الملك عن طريق السرقة، {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} في الماضي لنسرق في الحاضر، لأن ذلك ليس من أخلاقنا ولا من عاداتنا. ولم يعلق فتيان يوسف على ذلك، بل تركوا لهم أن يتحدثوا بما يشاءون.
ولكنهم بوحي من يوسف الذي كان يعرف شريعة يعقوب في عقاب السارق، سألوهم عن ذلك، {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في دعواكم الأمانة، وإنكاركم للسرقة، لأننا لا نريد أن نعاقب السارق بمقتضى شريعتنا، بل نريد أن نلزمكم بما تفرضه شريعتكم، لتعلموا أننا لا نقصد استغلال موقعكم الضعيف عندنا بأن نفرض عليكم ما نريد، بل نترك الأمر لكم في اكتشاف المسألة وفي الحكم عليها. {قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} وذلك بأن يسترقّ ويستعبد، أو يؤسر ليفعل به صاحب المال ما يشاء، وتلك كانت شريعة يعقوب في معاقبة السارق، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا غيرهم بالاعتداء على ماله، وظلموا أنفسهم بالانحراف عن أمر الله.
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} ليبدو الأمر طبيعياً لهم، فلا يثير أيّ شك لديهم بوجود خطّة لإبقاء أخيه، فلم يجد في أوعيتهم شيئاً مما أثار في نفوسهم الاطمئنان إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون اشتباهاً. وهنا كانت المفاجأة التي تنتظرهم :{ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} ووقفوا جميعاً أمام هذه الصدمة الكبيرة لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يفسرون الأمر بعد أن واجهتهم الحقيقة الصارخة.
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} ودبّرنا له الحيلة في الوصول إلى هذه النتيجة السعيدة التي كان يحبّها ويرتضيها، إنه التدبير الإلهي الخفي، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} لأن دين الملك وشريعته أن يسجن السارق أو يعاقبه، ولكن الله ألهمه أن يُلزمهم بما تفرضه شريعة يعقوب، فحصل على ما يريد، ولعل هذا هو المراد بقوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فإذا شاء أمراً هيّأ أسبابه، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} كما رفعنا مكانة يوسف بالعلم والتقوى، فبلغ ما بلغه من الشأن، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حسب ما تفرضه طبيعة اختلاف الدرجة في المعرفة، وربما كان في هذا بعض الإيحاء بما يميز يوسف عن إخوته في العلم، لأنهم كانوا يحملون بعض العلم حسب ما ذكر المفسرون.
تفسير القرآن