تفسير القرآن
يوسف / من الآية 77 إلى الآية 80

 من الآية 77 الى الآية 80
 

بسم الله الرحمن لارحيم

الآيــات

{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ* قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ* فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (77ـ80).

* * *

معاني المفردات

{اسْتَيْأَسُواْ}: يئسوا.

{خَلَصُواْ}: انفردوا عن الناس.

{نَجِيًّا}: متناجين متشاورين.

{فَرَّطتُمْ}: قصدتم.

{أَبْرَحَ}: أفارق.

* * *

خطة يوسف والهدف الكبير

... وأسقط في أيديهم أمام هذا الدليل الصارخ، والحجة القاطعة، ولكنهم أرادوا وضع أنفسهم في موقع يميزهم على صعيد مستوى الأمانة والشرف عن أخويهم الآخرين من غير أمّهم لئلا تنزل مكانتهم عند العزيز، وكأنهم يريدون أن يقولوا له: لقد أتينا إليك في المرة الأولى، ولم يحدث فيها ما حدث الان، لأننا لا نقوم بمثل هذه الأعمال التي قام بها أخونا هذا وأخوه، الذي سبقه إلى القيام بهذا العمل، من قبل، ولكنها إرادتك الحاسمة التي فرضت علينا المجيء به إليك، دون أن نعرف طبيعة العدوى التي سرت إليه من أخيه. ربما كان هذا ما كانوا يفكرون به عندما تحدثوا مع يوسف بهذه الطريقة.

{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} وحاول المفسرون أن يبحثوا في تاريخ يوسف عن هذه السرقة التي ألصقوها به، كما لو كانت حقيقةً، ولم يَدُرْ في أذهانهم، أن المسألة قد تكون مجرّد كذبة استثارها حقدهم على يوسف وأخيه، وعقدتهم التي يحملونها في داخل نفوسهم. وإلاّ فما معنى الحديث عن يوسف، وما المناسبة التي تفرضها طبيعة المشكلة التي يعيشونها في مسألة السرقة ليتحدثوا بهذا الأسلوب؟!

{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} وحاول أن يسيطر على انفعالاته التي كاد أن يطلقها لتواجههم بأكاذيبهم، ولترد لهم الكيل كيلين، لأنه لا يريد لخطته التي رسمها للوصول إلى هدفه الكبير في ضم أخيه إليه، واستقدام أبويه، وحلّ المشكلة نهائياً بينه وبين إخوته أن تفشل، مع ما يتضمن ذلك من معاناة كبيرة في الضغط على المشاعر وتحمّل المتاعب، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ واجههم من موقعه الكبير ليحمّلهم المسؤولية كمجموعة، لأنهم يتحملونها في العمق، في تاريخهم معه، وإن لم يكونوا مسؤولين عن السرقة في ما دبر أمره. لقد أطلق الكلمة الصارخة التي تُدينهم، وتبعد أخاه، كما تبعده ـ هو ـ عن مجرى اتهاماتهم، {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} في تفكيركم وعملكم، فليس لكم أن تواجهوا المسألة بهذه الطريقة التي تحاولون ـ من خلالها ـ أن تلصقوا الشرّ بالآخرين، وتبرِّئوا أنفسكم منه {وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} في ما تتهمون به الآخرين.

* * *

 

خذ أحدنا مكانه

{قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} ولا بأس بأن تتجاوز حرفيّة القانون نظراً للظروف الصعبة التي تحيط بهذا الأخ، لأن له أباً شيخاً يرتبط به ارتباطاً عاطفياً قوياً فوق مستوى العادة، بحيث يشكلّ احتجازه بالنسبة له صدمة عنيفة قد تودي بحياته. فإذا كانت المسألة تمثل لديك حالة ثأر واقتصاص، فمن الممكن أن يتحمل أحدنا المسؤولية عنه، لأننا نمثل مجموعةً واحدةً، إذا أساء أحدنا فكأن الآخرين أساءوا أيضاً، ولك على هذا الأساس أن تأخذ أيّ واحد منا، فلا تتحمل أية مسؤولية شرعية سلبية نتيجة ذلك، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يتغلب فيهم جانب الرحمة على جانب الانفعال، فيتحركون من مواقع الإحسان إلى من حولهم، في ما يتمثل في سلوكهم من الرأفة واللطف، ومراعاة الظروف المحيطة بكل قضية، بكل واقعية وبكل مرونةٍ وإخلاص.

ولكن يوسف يتمسك بحكم الشريعة، فلا يريد أن يتجاوز حرفيّة النص لأنه لا يوافق على ذلك ولا يجد مبرّراً له. أما العاطفة، فإنها لا تمثل شيئاً أمام تطبيق الشريعة، والاستسلام لها قد يعطّل حالة التوازن في العدالة التي يريدها الله لعباده، في أحكام شريعته. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} لأن هذا من الظلم الذي لا نوافق على اقترافه، {إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} وهذا ما لا يمكن أن نتحمل مسؤوليته أمام الله. وهكذا حسم يوسف المسألة فلم يترك لهم مجالاً للأخذ والرد.

* * *

هو خير الحاكمين

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا} واجتمعوا مع بعضهم يتداولون الرأي، حول ما يمكنهم القيام به لمواجهة حرج موقفهم من أبيهم، {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ} فإذا كنتم لا ترون في هذا الميثاق الذي أخذتموه على أنفسكم ، أمام الله ما يلزمكم بالبقاء، لملاحقة قضية أخينا، والحفاظ عليه، فإني أرى نفسي ملزماً بمتابعتها، ما أمكنني ذلك، ولن أعيد التجربة السابقة في التفريط بأخي هذا، {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} وبعتموه بثمن بخس، وتركتم مصيره للضياع، فلا نعلم الآن عنه شيئاً ... وربما يتكرر الأمر مع أخيه، فيضيع في أجواء الاسترقاق، كما ضاع أخوه، {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الذهاب إليه، لأكون في حلٍّ من عهدي، بعد ما أكون قد قمت به من جهد في سبيل تخليص أخي، {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يفتح لي أبواب النجاح، أو أبواب العذر، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} بما يدبّره من أمر عباده.