يجتمع في الأجواء الحميمة التي تخفّف الالام، وتصفّي القلوب؟؟ وهذا ما عاشه يعقوب كنبي يستشرف الغيب، في مثل لمعة الضوء الخاطفة، {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} إنه الإحساس العميق بالفرج القريب الذي يستمده من الله، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} الذي يعلم خفايا الأمور، ويدبّر خلقه برحمته، ويحتوي حياتهم بحكمته.
* * *
كظم الحزن
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وأعرض بوجهه عنهم، وغرق في أمواج الذكريات، وتحركت عاطفته، وانسابت الدموع في قلبه، قبل أن تتفجر في عينيه، وتذكر يوسف، {وَقَالَ يا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} فقد كان قرّة العين، وثمرة الفؤاد، بما يحمله من ألمعيّة الفكر، وروحانية الروح، وجمال النفس والجسد، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} لما كان يذرفه من دموعٍ حارّة حزينة حتى فقد بصره، ودمعه كان ينساب بهدوء، كتعبير صاف عن عمق الحزن، لكن يعقوب لم يجزع ولم يثر أية مشكلة لمن حوله، {فَهُوَ كَظِيمٌ} يكظم حزنه ويحبسه، ولكنه يعيشه وحده، في خلوات وحدته.
* * *
الشكوى إلى الله
وفوجىء أولاده بحديثه عن يوسف، فقد أصبح شيئاً قديماً جدّاً، وانتهى كحقيقة، لقد أصبح ذكرى ميتةً، فما باله يعيدها إلى الحياة ليربك حياتهم من جديد، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذنب؟ ولهذا واجهوه بعنف يتوسل أن يرحم نفسه أو أن يرحمهم، لما اختزنوه من شعورٍ بالألم: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تنفك تذكر يوسف الذي ذهب في ذمة التاريخ، وانقطعت أخباره حتى يئسنا جميعاً من عودته مما يجعل الحديث عنه، أمراً لا فائدة منه، كما أنه لا فائدة من السعي للبحث عنه. وهكذا أرادوا أن يقولوا له إن الإلحاح في استثارة الحزن من خلال استثارة الذكرى لن ينتهي {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} أي مشرفاً على الهلاك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} الذين تسقطهم الصدمة النفسية في قبضة الموت.
ولكنه جابههم بأن الأمر لا يعنيهم، وهو لا يشكو إليهم أمره، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أولاً، ولا يستطيعون أن يقدّموا له شيئاً ثابتاً، بل يشكو أمره إلى من يسمع شكواه ويملك أن يحل مشكلته، {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} وهو الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه، {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لأن معرفتي بالله، وما يفيضه على عباده من رحمته، وما يتّسع له لطفه، يجعلني كبير الثقة بمصير يوسف، لأنه إذا ابتعد عن رعايتي له، فإن رعاية الله ولطفه يفوق كل ما أختزنه له في قلبي من حبٍّ ورحمة. وإذا كنت أحزن، أو أعيش الهمّ، فلأن جانب الضعف في الإنسان يخلق لديه، من خلال التفكير بالتفاصيل، مشاعر سلبية تثير شجونه، وتدمّر استقراره النفسي. وهكذا بدأ الأمل يخضرّ في نفسه، وينمو مع روحانية الحديث الذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتى كاد أن يلامس مصير يوسف المشرق، كما لو كان يراه. ولهذا طلب من أولاده، أن يعودوا إلى مصر من جديد ليبحثوا عنه، حيث تركوا أخاه، لأن في داخله إحساساً لا يعرف حقيقته، بأن يوسف قد التقى بأخيه، وأنّه من الممكن أن يجدوه حيث يوجد أخوه.
* * *
لا تيأسوا من روح الله
{يا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} واطلبوه بكل ما تستطيعون توسله من أساليب تتحرك فيها حواسكم السمعية والبصرية، فلعلكم تواجهون المفاجأة التي لا تخطر لكم على بال، {وَلاَ تَيأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّه} وفرَجه، لأن المؤمن يبقى واثقاً بالله في كل أموره مهما ضاقت عليه الأحوال، ومهما تعقّدت من حوله الظروف، {إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} لأن اليأس من الفرج لا يخلو من أحد أمرين، إما الشك بقدرة الله، وإما الشك بعلمه، لأن الذي يمنع من حل المشكلة هو العجز عنها، أو عدم معرفة أبعادها، وكلاهما كفرٌ بالله..
* * *
اليأس يوجب الكفر
وهذا ما قرّره الرازي في تفسيره حيث يقول: «واعلم أن اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادرٍ على الكمال، أو غير عالمٍ بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلاّ عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً...»[1].
ومن خلال ذلك نعرف أن القرآن الكريم أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان بإعادته إلى إيمانه لينطلق معه في وعيٍ ويقظة كبيرين، يجعلانه يشعر بالأمل الذي يتفجر من ينابيع الإيمان كمثل الشعاع المنسكب من قلب الشمس في روعة الشروق.
وبهذا يلتقي الإيمان بالأمل في وحدة رائعة تجعل الروح التي تُشع أحدهما على الإنسان، تُشع على الآخر عليه أيضاً كما هي حال كل شيئين متلازمين في الوجود.
أما اليأس فجذوره الكفر وإن لم يشعر الإنسان به بشكلٍ مباشر. وعلى ضوء هذا، فإن على الإنسان الذي يعيش اليأس في قلبه، أن يعيد النظر في إيمانه، ليعرف إن كان منطلقاً من أساسٍ متين، أو لا.
وربّما كان في طلب يعقوب منهم أن يتحركوا في ساحات العمل، حتى في حالات اليأس بعض الإيحاء بأنّ على الإنسان ألاّ يستسلم لحالة اليأس عندما تحتل داخله، ولا يحاول في سبيل الوصول إلى مواقع الأمل أن ينطلق في حالةٍ تجريديةٍ، بل ينبغي له، أن يتحرك على الأرض ويحرك الإمكانات المتوفرة لديه، ليصل إلى الأمل الكبير من خلال الحركة المتصلة بالحياة المتحركة من حوله. وبذلك يتخلص الإنسان من عوامل اليأس النفسية، بخطوات العمل الواقعية، لتنعكس المسألة عنده، فإذا كان التصور الأسود يجمِّد أمام الإنسان حركة الحياة، فإن الحركة تحوّل الحالة النفسية المظلمة إلى حالة مشرقة من خلال المقولة التي تجعل التجربة في خدمة الفكرة، بدلاً من أن تكون الفكرة حاجزاً أمام التجربة.
ـــــــــــــــــــ
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، ط: الثالثة، م:7، ج:18، ص:199.
تفسير القرآن