من الآية 88 الى الآية 93
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ* قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ* قَالُواْ أَءِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ* قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ* اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (88ـ93).
* * *
معاني المفردات
{الضُّرُّ}: المجاعة.
{بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ}: البضاعة المزجاة: الرديئة أو القليلة.
{آثَرَكَ}: اختارك وفضلك.
{تَثْرَيبَ}: التثريب: التصنيف والعقوبة.
* * *
همّهم الطعام
ورجعوا من جديد إلى مصر بعد أن أمرهم أبوهم أن يعودوا إليها. ولم يكن همّهم البحث عن يوسف وأخيه، بل كان كل همّهم أن يبحثوا عن الطعام، لنفاذه لديهم، وعدم وجود ثمن يكفي لشراء ما يحتاجونه منه، ولهذا كانت طريقتهم في العرض والطلب، توحي بالاستعطاف والمسكنة.
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} وحاصرتنا المجاعة من كل جانب، وكبُرت حاجتنا إلى ما عندك من الطعام، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي رديئة أو قليلة لا تتناسب مع ما نريده منك من حيث الكمية أو النوعية، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} ولا تنقص منه شيئاً من موقع كرمك، {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} ولا تطلب منا المساواة في البدل، من موقع إحسانك، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} الذين يبذلون أموالهم للفقراء بلا مقابل حبّاً بالله، وتقرّباً إليه..
* * *
يوسف(ع) يحاكمهم
وانتظروا أن يتجاوب مع ما طلبوه بعض الشيء، وأن يتحدث معهم في التفاصيل، وربما كان يدور في ذهنهم، أنه سيعترض على ذلك، أو يفرض عليهم بعض الشروط، ولكنهم لم ينتظروا أن ينقلهم إلى حديث يوسف وأخيه، وأن يحاكمهم على ما فعلوه معهما في الماضي.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} هل عرفتم النتائج السلبية لما فعلتموه، والآلام والأزمات النفسية التي أحدثتموها في حياتهما؟! إنكم لا تحاولون استعادة ذلك، لأنكم لا تشعرون بتأنيب الضمير، فعقدتكم المَرضيّة تجاهما تبرّر لكم كل ما فعلتموه، {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} لا تعرفون نتائج أعمالكم، كما لا يعرف الجاهلون نتائج أعمالهم.
* * *
أجر المحسنين
وكان حديثه بمثابة صدمة أعادتهم إلى الماضي فتذكروا ملامح يوسف، في ملامح وجه العزيز ونبرات صوته، وشعروا بروح الإيمان التي حدثهم عنها أبوهم يعقوب وما تمثله من انتظار الفرج من الله تواجههم الان، فعرفوا في هذا العزيز أخاهم يوسف، في ما يشبه الوحي، أو اللمعة الفكرية والروحية التي تشرق في الذات، فتضيء جوانب الحاضر من خلال الماضي. {قَالُواْ أَءِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ} هل هذا وهم وخيال، أم هي الحقيقة التي تواجهنا؟! {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ} بلطفه وكرمه، وأكرمنا من حيث أردتم إهانتنا، وأعزنا من حيث أردتم إذلالنا، وفتح لنا باب الحياة بأوسع مجالاتها. فأين نحن الآن وأين أنتم، أليس في ذلك عبرة لكم ودرسٌ كبيرٌ؟ إن القوّة لا تصنع ـ وحدها ـ المستقبل، وإن العدوان لا يحقّق نجاحاً، بل الله، الذي يتقيه المؤمن، ويصبر امتثالاً لأوامره، هو الذي يصنع للإنسان مستقبله كما صنع له ماضيه وحاضره، وهو الذي يحقق له النجاح في حياته، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} بما توحيه التقوى من إحسان العمل لله، ويؤكده الصبر من إحسان للذات وللحياة، {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا النية، والعمل في كل خطوات الفكر والحياة.
* * *
طلب الغفران
وخضعوا للمنطق الإيماني في حديث يوسف الذي كان يتحدث ـ ليس فقط من موقع الإيمان ـ بل من موقع القوة التي يلمسها إخوته في سيطرته الواسعة على موارد الثروة في هذا البلد، ولهذا كان تأثيره عليهم كبيراً، وكانت فرحتهم به، كندمهم على ما بدر منهم تجاهه. {قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} واختارك وفضّلك، في العلم والحلم، والكمال في العقل، والجمال في الجسد، وها أنت في الموقع الرفيع، ونحن في الموقع الوضيع، فاغفر لنا ما بدر منا تجاهك وتجاه أخيك، فإنك الكريم بن الكريم. {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} أي لا عقوبة ولا تعنيف بل المسامحة والعفو، ولاستغفار لكم والابتهال إلى الله أن يعفو عنكم، وسيستجيب الله مني ذلك، {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} ذنوبكم في ما ارتكبتموه من إساءة وعدوان، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ} فلا يمكن أن يعاقبكم لحسابي، بعد أن عفوت عنكم وطلبت منه العفو والغفران لكم جميعاً. وهكذا عادت المياه إلى مجاريها، وانتهت كل المشاكل التي حكمت تاريخ العلاقات بينهم. وبقيت مشكلة يعقوب ـ الأب ـ الذي عانى الكثير من غياب ولديه عنه، وهنا فاجأ يوسف إخوته بطلبه إليهم في هذا المجال.
* * *
المعجزة الخارقة
{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} بعد أن يشمّه بقدرة الله التي بها تحيا العظام وهي رميم، فلا يُعجزها أن تعيد البصر إلى النبي الذي أطاع الله في نفسه، وفي الناس. إنها المعجزة الخارقة التي قد تكون كبيرةً بالنسبة للناس، ولكنها لا تمثل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة التي لا يقف عندها حد.
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} ليجتمع الشمل، وتنتهي كل الآلام، ويعود الفرح الروحي للقلوب التي عاشت في أجواء الحزن والأسى زمناً طويلاً.
تفسير القرآن