من الآية 94 الى الآية 98
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ* قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* قَالُواْ يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (94ـ98).
* * *
معاني المفردات
{فَصَلَتِ}: تجاوزت المكان الذي كانت فيه.
* * *
المفاجأة الصارخة
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} وتحركت القافلة من المكان الذي كانت فيه، وسارت في اتجاه أرض كنعان، حيث يسكن يعقوب، {قَالَ أَبُوهُمْ} لمن حوله من أولاده الباقين معه، أو للناس الذين يحيطون به {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} وأُحسّ بها، كما لو كان إلى جانبي، {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} أي تسفهون رأيي وتنسبونني إلى الخرف وضعف الرأي. وربما كان المراد من إحساسه بريح يوسف ظاهرها، وهي الرائحة التي يحملها الثوب، فتكون القضية على وجه الإعجاز، لأن المسافة بين المكانين، هي مسيرة ثمانية أيام أو عشرة؛ وربما يكون الأمر على سبيل الكناية في ما كان يفكر به من قرب لقائه به، في حالة من حالات الصفاء الفكري والروحي تؤهله لأن يحسّ بالشيء كما لو كان معه، ينظر إليه، ويشمّ رائحته… وقد يكون هذا الاحتمال أقرب إلى جوّ الآية الثانية، لأن الأمر لو كان على حسب الظاهر، لكان مثار استغراب بطبيعته، أكثر مما يكون مستغرباً بمدلوله، والله العالم.
{قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} الذي لا زلت مصرّاً عليه في اعتقادك بحياة يوسف، وقرب لقائك به دون أن تلتفت إلى خطأ هذا التصور، لأنه لو كان حياً لجاء منه خلال هذه المدة الطويلة خبر، فمن غير الطبيعي أن تنقطع أخباره، وهو على قيد الحياة. وسكت على مضض، وسكتوا على انفعال، وجاءت القافلة بالمفاجأة الصارخة، ووصل البشير يحمل قميص يوسف... {فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} وعادت إليه نعمة البصر، وفرح الحياة في ما أراد الله أن ينعم به على يعقوب من فرحة الشعور بحياة يوسف من جهة، ورؤيته إياه، بردّ بصره، على وجه الإعجاز من جهة أخرى.. {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في ما أؤمله من رحمة الله، وفي ما أستشعره من لطفه ورضوانه، مما يجعلنني لا أفقد الأمل بأيّ شيء من أمور الحياة في ما يختزنه غيبه، ولا أجد مجالاً لليأس، حتى لو أحاطت بي المشاكل من كل جهة، وفي أكثر من صعيد.
* * *
اعترفوا بالخطأ ووعدهم بالاستغفار
{قَالُواْ يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} فقد عشنا حياة الحقد والضغينة ضد أخوينا، حتى آذيناهما غاية الإيذاء، وعرّضنا حياة أخينا يوسف للخطر، وبعناه بثمن بخس دراهم معدودةً، وحمّلناك من الهموم ما أثقل حياتك، وأفقدك بصرك، فلم تستمتع بحنانك وعطفك عليه، ونحن لم نفسح لك المجال للراحة... ولكن الله أراد غير ما أردنا، ودبّر غير ما دبرنا، فرفع أخانا ووضعنا، فكنا في موضع الخطيئة التي ترهق أرواحنا وضمائرنا، وتشوّه شعورنا بصفاء الحياة وطهارتها من حولنا، فاستغفر لنا ذنوبنا، لأننا لا نملك الكلمة الطاهرة التي نتوجّه بها إلى الله، ولا نملك الروح الصافية التي ينفتح فيها دعاؤنا عليه من خلالها؛ أما أنت فإنك تملك الروح الصافية التي ينفتح فيها الإيمان، من موقع النبوّة، وروح الطهر من موقع الأبوّة الطاهرة. وكان أبوهم عند حسن ظنهم فاستجاب لهم ووعدهم بالاستغفار في الوقت الذي يستجيب الله فيه دعاء الداعين، واستغفار المستغفرين {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي يغفر خطايا المسيئين المنيبين، ويرحم المستغفرين من ذنوبهم.
تفسير القرآن