تفسير القرآن
يوسف / من الآية 103 إلى الآية 107

 من الآية 103 الى الآية 107
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ* وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ* وَكَأَيِّن مِن آية فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ* أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (103ـ107).

* * *

معاني المفردات

{غَاشِيَةٌ}: العقوبة الشاملة.

{تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ}: القيامة.

{بَغْتَةً}: فجأة.

* * *

نجاح الدعوة يحتاج للإعداد والصبر

... وهذه نقلة جديدة إلى الجوّ العام الذي يعيشه الإنسان في مواجهة الدعوة إلى الإيمان، وذلك في الحالات التي يجري التحرك خلالها بسلبيّة قلقة لا ترتكز على أساس موضوعيّ، أو ركن وثيق، وهذا ما يجب أن يعيه الداعية إلى الله، في تعامله مع الواقع المهتزّ من حوله، ليواجهه من موقع الثبات، لا من موقع الاهتزاز.

{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} لأن قضية الإيمان لا تتعلق فقط بما يعيشه الداعية الرسالي من حرص على النجاح في دعوته، في ما يقدمه من أفكار، وفي ما يثيره من أجواء، وفي ما يبدعه من وسائل وأساليب، بل القضية تخضع لعوامل أخرى، تعود إلى طبيعة الوضع النفسي والفكري الذي يعيشه الناس الذين يدعوهم، فقد يكون ضغط الواقع على قرارهم، أكثر من ضغط الفكرة الرسالية، وقد تقف العوائق الذاتية، سداً منيعاً يحول بينهم وبين الاستجابة للدعوة، وقد يتم الاصطدام ببعض الظروف الموضوعية التي يتحرك من خلالها الإنسان، في لعبة القوى الموجودة في الساحة، وما تحدده من ميزان القوة والضعف، تبعاً لذلك.

وهكذا نجد أن على الداعية الرسالي، ألاّ يُصاب بالإحباط، أو يسقط أمام محدودية النتائج التي نحققها على مستوى عدد المستجيبين لدعوته ونوعيتهم، في بداية الأمر، لأن مشروع التغيير الفكري والعملي للحياة وللناس، ليس بالأمر السهل الذي يمكن أن يتم، بين عشيّة وضحاها، تحت تأثير خطبة طويلة، أو موعظة بليغة، أو تحليل إسلامي دقيق، أو غير ذلك من وسائل التوعية، بل هو أمر يتعلق بالواقع الموضوعي، للإنسان في فكره وعاطفته وحياته وظروفه المتحركة في أكثر من اتجاه، مما يتطلّب إعداداً للإنسان، وللساحة، وسيطرةً على الظروف، وتحريكاً للعوامل الإيجابية في الساحة، ومواجهةً للعوامل السلبية، وصبراً طويلاً، يجتاز كل الصعوبات ويواجه كل العقبات بالنَفَس الطويل. فقد تمر السنون على الداعية دون أن يقطع شوطاً كبيراً نحو الهدف، وقد لا يجد من حوله إلا أعداداً قليلة ممن استجابوا لدعوته، واهتدوا بهداه، والتزموا بمسيرته.

* * *

فشل التجربة لا يعني فشل الفكرة

إن التغيير حركة في مواجهة تيّار عنيف، لا بد للذين يحرّكونه، أو يتحركون فيه من أن يعرفوا أن اندفاعة التيار قد لا تسمح إلا بخطوات قليلة متقدمة إلى الأمام، وقد تفرض، في بعض الحالات الانكفاء إلى الخلف تحت ضربات التيار. ولكن العضلات القوية التي تتقبّل الضربات بصلابة، والإرادة الحاسمة التي تواجه الضغط باندفاع وتحدٍّ سوف تستطيع أن تقهر التيّار، ولو بعد حين.

فمن الواجب أن تستمر المواجهة ولا تسقط تحت تأثير الهزائم أو حالات الفشل المحدودة، لأن الهزيمة في موقع لا تعني هزيمة الساحة، ولأن الفشل في التجربة، لا يعني فشل الفكرة.

* * *

أجر الداعية على الله

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} إن عليك أن تتابع مسيرتك مهما لاقيت من صعوبات ومهما واجهت من تحديات، لأنك لن تفقد شيئاً في هذا السبيل، لأن الذين يخافون من ضغوطات المجتمع عليهم، أو انحساره عنهم، هم الذين يتقدمون منه، ليأخذوا أجراً على جهدهم، من مال وجاه وشهرة، أو موقع قوة يمكنهم من تحقيق بعض الأغراض الذاتية، ولهذا فإنهم يخشون على كل هذه الامتيازات المطلوبة، من الضياع.

أمّا الرسل والدعاة فهم لا يريدون أجراً على جهدهم إلا من الله، لأنهم يتحركون من مواقع الرسالة، لذا فهم لا يجدون ما يفقدونه، أو يخسرونه من أموال الناس وامتيازاتهم، لأن القرآن، في فكره وشريعته ومنهجه، ليس سلعةً للتجارة، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} في ما يريد الله أن يذكر الناس به مما يرفع مستواهم في الحياة، ليعرفوا أن الدنيا ليست فرصة للهو والعبث، بل هي فرصةً لإقامة الحق والعدل، والطاعة لله، والعبودية له في جميع ذلك؛ حتى اللهو أو العبث عندما يسمح الله به، فإنه لا بد أن يكون بالطريقة التي تجدد نشاط الإنسان، وتغذي حيويته، ولا تبعد روحه، ووعيه للحياة عن الله، ليدرك بعد ذلك، أن الآخرة شيءٌ لا يتنكر لحاجات الدنيا الواقعية التي تحفظ للإنسان حياته وتحقق له وجوده.

* * *

الإعراض عن التذكر إغلاق لباب الهدى

إنها الذكرى التي تفتح الروح والفكر والقلب والحياة على الله، حتى ليُحسُّ الإنسان بأنه يلتقي بالله في كل وجه من وجوه الحياة، وفي كل مظهر من مظاهر حركة الإنسان في الكون، ولكن الناس لا يتذكرون، بل يعيشون الغفلة التي يختارونها دون أن يفرضها عليهم أحد، لأنهم يمرون بلا مبالاة، أمام عوامل الوعي، والانفتاح والتذكر.

{وَكَأَيِّن من آية في السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ} بما تشتمل عليه من أسرار الإبداع، وعظمة الخلق، وروعة القدرة، التي تفتح فكر الإنسان وروحه، على عظمة الله سبحانه، وتقوده إلى الإيمان من أقرب طريق باقتحامها عليه كل حواسّه، وكل فكره، وحياته، فلا يشعر إلا والإيمان قد نفذ إلى كيانه من جانب الشعور، ومن جانب الفكر، ومن حركة الحياة في داخله تماماً، كما هي الروائح العطرة التي تدخل إلى مسامّ الجسد فيشعر الإنسان بها، كما لو كانت شيئاً في الفكر، وفي الروح والشعور، ولكنهم {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} فلا يتطلعون إليها بأبصارهم ولا يصغون إليها بقلوبهم، ولا يتأملون فيها بأفكارهم وعقولهم، وبذلك يغلقون على أنفسهم كل باب للهدى، وكل نافذةٍ للإيمان.

* * *

الإيمان بالتوحيد يخضع لحسابات دقيقة

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ربّما يؤمن هؤلاء، ولكنه الإيمان الذي يمثل حالةً فكرية، لا تلامس الشعور، أو حالةً نظريةً لا تتحرك في الواقع، أو حالة عاطفية لا تؤكدها الإرادة، ولهذا فإن الإيمان عندهم لا يتحول إلى موقف يحدد موقعهم من كل الحالات المحيطة بهم، بل هو مجرّد شبح في الذاكرة وصورةٍ في الذهن. أما الواقع فإنه يحتضن الكثير من أوضاع الشرك في الطاعة، عندما يعصون الله، ويطيعون غيره، رغبةً أو رهبةً، أو حينما يستغرقون في تعظيم ذات بشريّة، حتى يصلوا بها إلى مستوى التأليه، أو ما يقرب منها، ويتوجهوا إليها في ابتهالاتهم كما يتوجهون إلى الله، وينسبوا إليها الأفعال التي لا تنسب إلى الله.

وقد جاء عن أبي جعفر الباقر(ع) في تفسير هذه الآية قال: «شرك طاعة ليس بشرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون، فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره، وليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.»[1]

وعن أبي عبد الله «جعفر الصادق(ع)» في تفسير الاية قال: «هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، لولا فلان لأصبت كذا وكذا ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه جعل شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لولا أن الله منّ عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا»[2].

وفي هذا التفسير، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: «من ذلك قول الرجل: لا وحياتك»[3].

وعلى ضوء هذا نعرف أن مسألة الإيمان التوحيدي بالله لا بد أن تخضع لحسابات دقيقة، على مستوى الالتزام الفكري بالنظر إلى الأشياء، فلا يمكن أن ترى مع الله أحداً، أو تجعل أيّ مخلوق قريباً في نظرتك إليه، من مستوى نظرتك إلى الله، وألاّ تعطي أحداً من العباد موقعاً أعطاه الله لنفسه، ولا تتكلم عنه بأسلوب أراد الله أن نتكلم به عنه. وهكذا يجب أن يمتد الأمر إلى العمل فلا طاعة إلا لله، ولا التزام إلاّ بالخط الذي يرضاه وينتهي إليه، ولا حركة إلا في إفاق شريعته حيث يلتقي التوحيد العبادي الذي يريد الله لنا أن نلتزمه بخط التوحيد العقيدي.

وبذلك نعرف كيف نعيش الشرك في كثير من مواقعنا الفكرية والعملية، التي تتحرك في خط الغلو تارة، أو في ما يقترب منه، أو في خط الانحراف عن الخط الشرعي بالالتزام في طاعة غير الله، الذي يتمثل في أكثر من مظهر من مظاهر عبادة الشخصية التي يكون الشخص فيها هو الأساس في القيمة، ويكون الدين مجرد موقعٍ من مواقع عظمته، فلا تنطلق عظمته، في وعينا، من دوره الديني، بل تنطلق عظمة الدين من دوره هو. وهكذا نجد الإسلام يتأطّر بالشخص، بدلاً من أن يتأطّر الشخص بالإسلام.

* * *

لا مأمن من المفاجآت

{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} تغشاهم فتحول بينهم وبين الرؤية في ما تثيره من الدخان، أو في ما تلتهب به، {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فتفاجِئهم بالموت الذي يحيط بهم من كل جانب، فلا يستطيعون هروباً منه ولا فكاكاً، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لأن القضية لا تنتظر أيّ إعداد. فهل يأمنون تلك المفاجآت؟ وما الذي يؤمنهم منها؟ لا أمان إلا بالعمل الصالح، والإيمان الخالص، والانفتاح على الله، وعلى الناس من موقع الحق والخير، والهدى والسلام.

ـــــــــــــــــ

(1) البحار، م:4، ج:9، ص:132، باب:1، رواية:93.

(2) م.س.، م:24، ج :68، ص:328، باب:63، رواية:49.

(3) م.ن.، م:25، ج:69، ص:62، باب:98، رواية:21.