من الآية 108 الى الآية 111
الآيــات
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرمينَ* لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (108ـ111).
* * *
معاني المفردات
{بَأْسُنَا}: البأس: العقاب.
{عِبْرَةٌ}: كل حادثة تَعْبُرُ للإنسان عما يهتدي به ويتّعظ.
إعلان الثبات على نهج الاستقامة
وهذه خاتمة المطاف في السورة، حيث أراد الله أن يوجّه نبيه للإعلان عن ثبات موقفه على الخط الذي أراد له أن يسير ويثبت عليه، بالرغم من كل التحديات والصعوبات والخصومات.
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي} وطريقي وسنتي، التي أسير عليها دون خوف ولا وجلٍ ولا تراجعٍ، وتتلخّص في خط واحد تتفرّع منه كل الخطوط الأخرى في حركة الإنسان في الحياة، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} في وعي عميق للدعوة، وفي علمٍ واسعٍ بالرسالة، والدعوة إلى الله هي دعوة إلى الخير كله الذي يدعو الله إليه، وإلى العدل كله الذي يأمر به عباده، وإلى الحقّ كله الذي يثبت به أولياءه… وهكذا تختصر الحياة كلها في كلمة على نهج الاية الكريمة: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} [فصّلت:30] فالدين كلمة واحدة تتلخّص في ربوبية الله للإنسان، والاستقامة على إيحاءات هذا الشعار ومعناه. وإذا كان الإنسان يدعو إلى الله، فإن الدعوة إلى الله تنفي الدعوة إلى غيره، في الفكر والمنهج والحياة، فلا يمكن الدعوة إلى مخلوق إلاّ لارتباطه بالله، والتزامه بخطه وعبوديته له؛ وهذا هو التوحيد الخالص الذي يؤكد ضرورة مرور كل شيء بالله في نطاق العلاقات العامة والخاصة، وهذا ما يجب أن يعلنه كل داعية بناء على ما أراد الله لنبيه أن يقوله: {أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} تعظيماً له من كل سوء ومن كل شريك، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين يدعون إلى غيره.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} فلم تكن بدعاً من الرسل بل أنت واحدٌ منهم في الصورة، وفي الدعوة، وفي خط السير، وفي وحي الله لك، وفي انتسابك إلى هذه القرى البسيطة التي ينتسب إليها الناس عموماً، فلا بد للناس أن يتبعوك امتثالاً لأمر الله، واستجابةً لدعوته، لأن السير على خلاف ذلك قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الذين آثروا الحياة الدنيا وزينتها على الدار الآخرة ونعيمها، فلم يبق لهم شيء من الدنيا، وجاءهم العذاب من حيث لا يحتسبون، {وَلَدَارُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ} ربّهم، وعملوا لما عند الله، وأقبلوا على الآخرة فحصلوا على رضوان الله في جنته، وذلك هو الفوز العظيم الذي يتنافس فيه المتنافسون، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتميزون بين ما تفنى لذته وتبقى تبعته، وبين ما ذهب أثره، ويبقى ثوابه؛ فإن الذين يحكّمون عقولهم هم الذين يختارون الآخرة على الدنيا، والباقي على الفاني.
* * *
وجاء النصر
{حَتَّى إِذَا اسْتيأسَ الرُّسُلُ} واستفذوا كل التجارب، واستعملوا كل الأساليب، وواجهوا الناس من كل جانب، وعلى أكثر من صعيد، ولم يستجب لهم أحد، بل قابلهم الناس من حولهم، بالجحود والنكران، ولاحظوا كل ما يحيط بهم من أجواء مظلمة، وأوضاع صعبة، {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} في ما شاهدوه من الدلائل والظواهر حتى وصل الأمر بهم إلى مستوى اليقين، ووقفوا بين يدي الله، يشكون إليه أمرهم، وينتظرون أمره، ويأملون نصره، {جَآءهُمْ نَصْرُنَا} فنعذب من نشاء ممن حقّت عليه كلمة العذاب، ونثيب من استحق الغفران {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} من عبادنا ورسلنا الصالحين، {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} بل ينالهم العذاب من كل جانب ومكان.
عبرة القصص
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولي الأَلْبَابِ} الذين يحركون عقولهم من أجل أن يفهموا كل ما يسمعونه ليستفيدوا منه في إغناء تجربتهم، وتثبيت مواقفهم، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} من النبي محمد(ص)، {وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب والرسل، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاجه الناس من أمور معاشهم ومعادهم، {وَهُدًى} يهتدي به الناس إلى الصراط المستقيم، {وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في ما يفتح الله به عقولهم وحياتهم على الخير، ويرحمهم بواسع رحمته، إنه أرحم الراحمين.
تفسير القرآن