الآية 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} (1).
* * *
تلك آيات الله... فتدبروها
{المر}َ من الحروف المقطعة في القرآن التي تحدثنا عنها في أول سورة البقرة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتابِ} التي أنزلها الله، ليعيش الإنسان من خلالها الفكر الذي أراد له حمله، والمنهج الذي أراد له الاقتداء به، والطريق الذي حبّب إليه سلوكه، والشريعة التي فرض عليه تطبيقها، والجوّ الذي أراد له العيش فيه. إنها تتحرك أمامنا روحاً حيّة تتجسّد في الكلمة التي تجسّد في حركتها الفكرة، حيث تنطلق في رحابها كل قيم الروح، وتنفتح في آفاقها كل ألطاف الله، في ما يرحم به عباده. إنها أمامنا، فيجب أن لا نعرض عنها، ولا ننساها، ولا نواجهها بأسلوب اللاّمبالاة، ولا نتجمد في نطاق حروفها لنقف عند سرّ البلاغة فيها، أو لنبدع لها ألحاناً تسحرنا أجواؤها، بحيث تلتقي الكلمة الحلوة بالصوت الشجيّ، بل علينا أن ننطلق في رحابها الواسعة الشاملة المنطلقة من رحاب الله، لنأخذ من قاعدتها الفكرية حركات امتداد الساحة، على أكثر من صعيد، ولنبدع من روحها أكثر من روحٍ تصفو وتخشع وتناجي وتمتد، وتبدع وتحنو وتواجه وتتحدّى وتسالم وتحارب وتفكر وتحاور وتهدي وتعلم، من خلال روح الله التي أفاض منها على الحياة رحمةً ولطفاً وحباً وسلاماً.
علينا أن نواجه آيات الكتاب من موقع المسؤولية النابع من وعي الحركة في العمق وامتداد الدعوة وثورة الهدى. إنها إيحاءات الإشارة الإلهية إلى نبيّه، إذ يريد منه أن تتحد شخصيته مع الناس في طاعتهم لله وانسجامهم مع وحيه، لأنه يريد أن يكون فكرهم فكره، وشريعتهم شريعته، وأسلوبهم أسلوبه، وأخلاقهم أخلاقه، ومنهجهم منهجه. ولهذا كان يخاطبهم من خلاله، ويحدّثهم بما يحدثه به، حتى أنه يلطف بهم في الخطاب من خلال لطفه بالرسول، ويعنف بهم من خلال تعنيفه له.
وهكذا كانت الإشارة للتأمل والاستيحاء والانفتاح، ليدرك الناس مواقع الحق في كلماته ومفاهيمه وآفاقه، في مواجهة من يريدون إثارة الضباب حول الكتاب، ليوحوا للناس بأنه يمثل الباطل، وليأتي التأكيد بأنه الحق منسجماً مع الإيحاء الذاتي الذي يختزن الحكم من خلال الجو العام.
* * *
معنى الآيات
من الغريب أن يذهب بعض المحققين من المفسرين، إلى تفسير لفظ الآيات، بالآيات الكونية المنتشرة في الآفاق، فيكون المراد بالكتاب عندئذ هو الكون الذي يحتوي هذه الآيات. ويرى هؤلاء المفسرون في الآيات التالية دليلاً على ذلك، كونها تشتمل على تفصيل آيات الله في الكون، من رفع السماوات بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر، وغير ذلك من الآيات الدالة على توحيد الله سبحانه، الذي يفصح عنه القرآن الكريم وتندب إليه الدعوة الحقة.
ويتابع هذا المحقق قوله: «وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة، وهما الدلالة الطبيعية التي تتلبّس بها الآيات الكونية من السماء والأرض وما بينهما، والدلالة اللفظية التي تتلبّس بها الآيات القرآنية المنزلة من عنده تعالى إلى نبيه(ص)»[1] .
ولكننا نلاحظ على هذا الكلام، أن استعمال الكتاب تعبيراً عن الكون، سواءٌ كان بالاستعمال الصريح لدلالة اللفظ على المعنى، أو بطريقة المجاز بلحاظ ما يشتمل عليه القرآن من الآيات الكونية، ليس مألوفاً في الاستعمالات القرآنية، وبالتالي فهو خلاف الظاهر. كما أنّ السياق لا يؤكّد مثل هذا الاستعمال، لأنه من الممكن أن يكون في هذه الآية ـ كما هو الظاهر ـ توجيه للإنسان إلى التأمل في آيات القرآن ليفهم جوانب الحق فيها في ما تشتمل عليه تلك الآيات من الأسرار، ليكون ذلك بمثابة مقدمة للتأكيد على أنها منزلةٌ من الله على أساس الحق الذي لا ريب فيه، لينطلق الإنسان مع القرآن المنزل من عند الله، فيتابع آياته بما تشتمل عليه من دلالة على توحيد الله واليوم الآخر. فإن الانطلاق من موقع الحق، في أيّ موقعٍ، يوحي بالكثير من الوضوح في الرؤية بطريقةٍ أكثر اهتماماً وتركيزاً.
{وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} الذي لا يخالطه شك في ما يستوحيه الإنسان من إشراقات الحق، ودلائل الإعجاز، وأسرار الروح، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنهم لا يتدبرونه في عمق الفكر وامتداد الرؤية. فالإيمان لا يتعمّق في النفس والفكر، باللمحات الخاطفة التي تخطر بالبال، بل يحتاج إلى الدراسة العميقة والتفكير المنفتح والرؤية الواسعة الممتدّة التي تؤدي إلى القناعة والاطمئنان. وبهذا نعرف أن الإيمان يلتقي بالعلم، من أقرب طريق، وبالفكر من أوسع المجالات، فلا مجال للإيمان بدون فكر يناقش القضايا، ولا أساس للقناعة بدون علمٍ يؤكّد الحقائق.
ـــــــــــــــــــ
(1) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1411هـ ـ 1991م، ج:11، ص:287.
تفسير القرآن