من الآية 2 الى الآية 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبَّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ* وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ واَحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(2ـ4).
* * *
معاني المفردات
{رَوَاسِىَ}: الجبال الرواسخ.
{يُغْشِي اللَيْلَ}: يلبس ظلمة الليل النهار.
{وَجَنَّاتٌ}: بساتين.
{صِنْوَانٌ}: جمع صنو وهما نخلتان من أصل واحد.
{الأكُلِ}: ما يؤكل.
* * *
جولة في رحاب الكون.. من أجل الإيمان
كيف يحصل الناس على قناعة الإيمان بالله وتوحيده؟ هل يمكن لنا القول كما يقول بعض متفلسفة الأديان: إن الإيمان فوق العقل، فلا مجال لتحصيل الأول عن طريق الثاني، ولا يمكن لك أن تطالب مؤمناً ببرهان عقليّ على إيمانه، لأنه حالةٌ تلتقي بالوجدان بطريقةٍ لا شعوريةٍ، وتتحرك مع المشاعر بأسلوب روحيّ، فهو الغيب الذي لا يملك الحسُّ أن يلتقي به، وهو الإحساس الداخليّ الذي لا تملك المعادلات العقلية أن تقترب منه؟
هل الإيمان حالةٌ شعورية، أم هو حالةٌ عقليةٌ تتحرك في أجواء الشعور؟ إن الله يجعل الإيمان منطلقاً من موقع الفكر، فلا بد للإنسان من مناقشة كل الطروحات التي تدعوه ليؤمن بها، ولا بد له من أن يخوض معها صراع الفكر عندما تتعدد أو تتنافر، ليصل إلى الرأي الأرجح من خلال النتائج الحاسمة لهذا الصراع. ولا يقبل الله للإنسان أن يقلِّد في إيمانه، أو يعتمد على ما لا يجوز الاعتماد عليه في ميزان العقل، ولهذا ذمّ المقلّدين لآبائهم، لأن القرابة لا تبرّر الخضوع لرأي القريب دون أيّ أساسٍ شرعيّ.
ثم كيف نصل إلى الإيمان من خلال العقل؟ هل نتحرك في نطاق المعادلات العقلية التجريدية المعقّدة التي يثيرها الفلاسفة في تحليلاتهم ليكون ذلك هو الأساس الوحيد للإثبات، أم أنّ هناك وسائل أخرى تتصل بالحسّ الإنساني لجهة ما يشاهده الإنسان أو يلمسه؟
إن القرآن يريد للإنسان أن يقرأ في صفحات الكون ما يراه من ظواهر الطبيعة، وعجائب الخلق في الأرض والسماء، ويفكر ويتدبّر، ليصل إلى النتائج الحاسمة على مستوى العقيدة والحياة، وليكون إيمانه صافياً صفاء النور في السماء، عميقاً عمق الينابيع في الأرض، منساباً في كل لمحة ضوء تحدّق فيه، وفي كل آية كونيةٍ تملأ البصر بعجائبها، والعقل بأسرارها ومدلولاتها. إنه الإيمان الحيّ الذي يتجسد في كل ما يعيشه الإنسان في نفسه، وما يحيط به من آفاق وأوضاعٍ وموجودات.
* * *
رفع السموات واستوى على العرش
إنّ ما تريد الآية أن تثيره، هو أن تحرك الإيمان في وجدان الإنسان من خلال فكر الحياة. {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ترونها}. فإذا فكرّ الإنسان بالخالق وبحث عنه، أمام كل العقائد التي تتنوّع في حديثها عنه، وتطلّع إلى السماء وما فيها من كواكب فخمة سابحة في الفضاء، وتأمّل كيف استطاعت أن تثبت في مواقعها من دون ركائز، وحاول أن يدرس كيف حدث ذلك، هل هناك ركائز خفية تختلف عما ألفه الإنسان من الأعمدة التي تمسك الأشياء المرتفعة في الفضاء، ومن صنعها؟ ومن الذي يملك القوة والقدرة على فعل ذلك؟ لا شك أن الإنسان لن يجد بعد البحث إلا الله الواحد القهّار. وقد نلاحظ في هذا المجال أن الآية تتحدث عن الظاهرة العجيبة لتجعلها موضع تفكير الناس من جديد، كي يدركوا سرّ العظمة فيها بالنظرة العامة، أو بالنظرة العلمية الدقيقة، فيخرجهم بذلك من حالة الإلفة معها التي أفقدتهم الشعور بعناصر الإبداع وأسرار العظمة.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، بما توحي به كلمة الاستواء من السيطرة المطلقة، وبما تمثله كلمة العرش من مركز هو الأعلى في خلق الكون، أو من التعبير عن موقع السلطة على سبيل الكناية. وربّما كان التعبير بكلمة "ثُمَّ" دلالة على الترتيب الزمني بين خلق السماء وخلق العرش الذي يمثل المركز الأعلى في مواقع الخلق في ما يعنيه العلوّ من درجات دنيا وعليا. أما حقيقة الموضوع، فإن الله ليس جسماً يحتويه المكان ليجلس على عرش معين في مكان معين، ولكنها مناسبات التعبير في الشكل والمضمون.
* * *
تسخير الشمس والقمر ومد الأرض
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، بما وضعه لهما من قوانين ثابتةٍ، في حركتهما الكونية المتصلة بالظواهر الآخرى، الأمر الذي يجسّد إرادة الله في إدارة الأشياء في الوجود حسب مشيئته وتخطيطه، فلا مجال لانحراف أيّ شيء منها عن مداره، أو لابتعاد أي شيء منها عن غايته المرسومة، فكل الأشياء مسخّرة له، في ما يبني به الحياة، ويدبّر لها أمرها. {كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّـى }، فقد جعل الله لهما ولكل شيء في السماء والأرض أجلاً معيناً، وأمداً محدوداً، في حركته المرسومة التي قدرها الله له.
{يُدَبَّرُ الأمْرَ} فيحرك كل شيءٍ في نطاق خطةٍ حكيمةٍ تضع كل شيءٍ في موضعه، وتلاحق كل أوضاعه وترعاها في تقدير دقيقٍ وتدبير حكيم. {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} الكونية ـ على رأي بعض التفاسير ـ وذلك في فصل الأشياء بعضها عن بعض، وتمييزها في خصائصها ودقائقها، بحيث لا تختلط الأشياء فيها ولا ترتبك الظواهر والموجودات، أو الآيات المنزلة من عند الله ـ كما في تفسير بعضٍ آخر ـ وذلك بتوضيحها وكشف حقائقها وخصائصها، بحيث لا تخفى على أحدٍ، ولا يشتبه أمرها على الناس، ليعرفوا، من خلال ذلك، كيف يعرفون الله بعظمته وحكمته وتدبيره، وكيف يؤمنون به في وحيه ورسالته، لينتهي ذلك بهم إلى استلهام تدبير الله في منع العبث في انتهاء الحياة إلى اللاهدف واللامعنى الذي يتحدث عنه المنكرون للآخرة. فقد لا يكون للحياة القائمة على التنظيم في الخلق وفي المسؤولية معنى إن لم تكن نهايتها واقعةً في الخط العملي لحركة المسؤولية في ميزان النتائج الحاسمة. {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} من خلال عناصر اليقين التي يوحي بها الفكر، وتتحرك فيها الشواهد والبينات.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ} وبسطها بطريقةٍ دقيقةٍ صالحةٍ للعيش وللنموّ والحركة للموجودات التي أراد لها الله أن تعيش فيها من إنسان وحيوان ونبات يحتاج وجودها إلى قواعد ثابتةٍ في العمق والامتداد، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} بما أودعه فيها من جبال ضاربةٍ في أعماق الأرض وشامخة في أعالي الفضاء، لتحقق التوازن الذي يركّز للأرض الثبات والصلابة، حتى لا تسقطها زلازل، ولا تهزّها براكين، حفاظاً على طبيعتها الممتدّة المنتجة، {وَأَنْهَاراً} تجري وتمتد لتبعث في الأرض الخصب والحياة، لتزدهر بالخضرة المعشبة، وبالأشجار المثقلة بالفواكه والثمار، وبالزروع الحاملة للحبّ، وبالريّ الذي يبعث الحياة في كل شيء. {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} انطلاقاً من قانون الزوجية الذي أودع الله فيه سر عظمته، ووحدة خلقه، حيث تلتقي فيه أصغر ذرّة في الكون، بأكبر مخلوق فيه، مع كل هذا التنوُّع في الشكل والحجم والخصائص والنتاج، ومن خلاله يتمّ التلاقح عند الإنسان والحيوان والنبات، ويتحقق التفاعل الذي يعطي الحركة للجماد. وقد ذكر في تفسير الزوجين في الثمرات: أن المراد هو الصنف الذي يخالفه صنفٌ آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أو لم يكونا.
وقال في تفسير الجواهر في قوله تعالى: {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: «جعل فيها من أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى في أزهارها عند تكوّنها، فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر وزرعٍ لا يتولّد ثمره وحبّه إلاّ بين اثنين ذكرٍ وأنثى. فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدةٍ كأغلب الأشجار، وقد يكون عضو الذكر في شجرةٍ والآخر في شجرةٍ أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرةٍ واحدة، إما أن يكونا معاً في زهرة واحدة، وإما أن يكون كلٌّ منهما في زهرةٍ وحده، والثاني كالقرع، والأول كشجرة القطن، فإن عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرةٍ واحدةٍ»[1].
وقد علّق صاحب تفسير الميزان على ذلك بقوله: «وما ذكره وإن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها، إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه، فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين، ولو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: وكل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.
نعم، لا بأس أن يستفاد ذلك في مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ} [يس: 36]، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10]، وقوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49]»[2].
وما ذكره صاحب الميزان يقوم على طبيعة التركيب اللفظي الجاري على سبيل الحقيقة، ولكن يمكن أن توحي أمثال هذه الآيات بأن المراد من هذه الآية ما ينسجم مع معناها، لأن الظاهر أن الله يريد تأكيد هذه الحقيقة الكونية في كل شيء، فتكون هذه الآية تطبيقاً لهذه الظاهرة الكلية في النبات. وربما يكون المراد منها معنىً خفيّاً لم يدرك الإنسان سرّه في طبيعة الثمرات.
{يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ} بانتشار الظلمة في الفضاء بالطريقة التي تغطي الآفاق التي كانت مشرقةً بضوء النهار، {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأن الفكر إذا تحرّك على مستوى الظواهر بما توحيه وتدلّ عليه، يستطيع أن يدرك طبيعة الحكمة في انسجام القوانين المشتركة التي تخضع لها تلك الظواهر، وفي الأسرار البديعة التي تختزنها خصائص كل واحدةٍ منها، فينتهي إلى الإيمان عند الإله الواحد الذي يبرر معنى وجود الكون وحركته السائرة إلى مستقرها المرسوم.
{وَفي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} متقاربات في الموقع والطبيعة والجو ولكنها مختلفة من طيبة إلى سبخةٍ، ومن صُلبةٍ إلى رخوةٍ، ومن صالحة للزرع والشجر إلى أخرى عكسها، مع التقائها جميعاً على طبيعة واحدة، هي خصوصيتها الأرضية، {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ} تختلف في أشكالها وأنواعها وخصائصها، {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ}، والصنوان جمع صنو: وهي النخلة لها رأسان وأصلهما واحد، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وهي النخلة ذات رأس واحدٍ، في مقابل النخلات الأخرى، {يُسْقَى بِمَآءٍ واحِدٍ} فلا فرق بين الماء الذي تسقى به هذه، والماء الذي تسقى به تلك، فمن أين جاء هذا التغاير في الخصائص، {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} إذ تتميز كل واحدةٍ عن الأخرى في إنتاجها، وإذا كان التمايز موجوداً في الأسباب الأولى، فكيف يكون تفسير ذلك على المستوى الأعمق الذي يلتقي فيه الجميع عند طبيعة واحدةٍ لا تملك أيّ نوع من أنواع التمايز، ما يبعث على التساؤل من جديد: كيف حدث هذا، ومن أين، ومن الذي أودع سرّ التنوّع في الأشياء ما دامت الأشياء لا تملك في ذاتها ما يحتم تمايزها! {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ويحرّكون عقولهم لمعرفة الحقيقة الإيمانية التي تشير إلى أن الله وحده هو الذي أبدع ذلك كله، وهو الذي أودع في الطبيعة الواحدة سرّ الاختلاف في الأنواع والأصناف والأفراد.
ـــــــــــــــ
(1) نقلاً عن تفسير الميزان، ج:11، ص:294.
(2) م.ن.، ج:11، ص:292.
تفسير القرآن