تفسير القرآن
الرعد / من الآية 5 إلى الآية 7

 من الآية 5 الى الآية 7
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ* وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ* وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (5ـ7).

* * *

معاني المفردات

{الأغْلالُ}: جمع غلّ، وهو قيد تشدّ به اليد إلى العنق.

{بِالسَّيِّئَةِ}: النقمة.

{الْحَسَنَةِ }: النعمة.

{الْمَثُلاتُ}: جمع مثلة، وهي العقوبة مع وجود أثر يدل عليها كجدع الأنف ونحوه.

* * *

الكافرون ينكرون بعثهم خلقاً جديداً

{وَإِن تَعْجَبْ} من شيء يثير الدهشة في نفسك، لأنه لا ينطلق من منطلق معقول، {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} هؤلاء الذين ينكرون المعاد، وهم يؤمنون بالله الخالق للإنسان، القادر على كل شيء، بما يرددونه من حديث الكفر: {أَءِذا كُنَّا تُرَابًا} بعد أن تفنى أجسادنا وتتحول إلى تراب، {أَئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} نعود فيه إلى الحياة أجساماً تتحرك، وروحاً تحس وتفكر. وكيف يمكن للجماد أن يتحول إلى حياة، وكيف يعقل للتراب أن يصير روحاً وحركة وشعوراً؟ أما وجه العجب في ما يقولونه، فهو أن الإيمان بالله الذي خلق الإنسان، يفرض الإيمان بقدرته على إعادته، لأن جانب الإيجاد أكثر صعوبةً من جانب الإعادة. إنه الكفر الذي لا ينطلق من العقل، بل من الإلفة والعادة التي تجعل الإنسان ينكر ما يخرج عن المألوف لديه، وإن كان قريباً لحسابات عقله، {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} دون حجّةٍ أو برهان، {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ في أَعْنَاقِهِمْ} جزاءً لهم على الكفر الذي ينطلق من حالة عنادٍ لا من حالة فكر، {وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} لأن الله قد جعلها للجاحدين به وباليوم الآخر، وللمنحرفين في الحياة عن خطّ هداه، الأمر الذي أبعدهم عن رحمة الله، عندما انفصلوا عنه في حركة المسؤولية أمامه، فلا مجال لهم للحصول على نتائج رحمته، بدخول جنته والابتعاد عن ناره.

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، وهو أسلوب الكفار في التحدّي الذي لا يسعى إلى مد جسور الحوار وإيجاد أرضيةٍ للتفاهم، بل يسعى إلى تنفيس عقدة الغيظ التي تعتمل في داخلهم أمام حالة العجز التي يشعرون بها في مواجهة الطرح الفكري للرسالة والإيمان، فيطلبون من النبي ـ من موقع التحدي ـ الإتيان بالعذاب ليدمر الكافرين، إذا كان هناك عذابٌ من قِبَل الله، بهدف إحراج النبيّ، أو تدمير النفس، وإنهاءً لحالة الحيرة التي يعيشونها بين إمكان تحقيق ذلك وعدم إمكانه. وهكذا يستعجلون السيئة وهي العقاب الذي يترتب على كفرهم وعنادهم، قبل الحسنة التي هي ثواب الله الذي ينبغي للإنسان أن يتطلع إليه من خلال رحمة الله، والسير على خط الإيمان والطاعة، {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، وهي العقوبات التي تترك أثرها على الجسد، التي كان ينزلها على الكافرين من قبلهم، فلا يتّعظون ولا يخافون ولا يأخذون العبرة من هذا الماضي لحساب الحاضر، وهي حال الناس الذين لا يدرسون الأمور بالعمق الذي يربطهم بحقيقة الحياة الحاسمة، بل من موقع اللحظة الحاضرة التي تتحرك فيها الشهوة والمصلحة والعوامل الذاتية، ما يجعلهم يختارون لأنفسهم المصير الذي لا ينسجم مع مصلحتهم الحقيقية، ولا يلتفتون إلى أن الله يملك العقاب كله، والثواب كله، ويرجع إليه أمر المصير الذي يلتقي فيه كل الناس، الأمر الذي يفرض عليهم أن يرجعوا إليه ويرتبطوا بخط طاعته، إذا أرادوا لأنفسهم الخير والنجاح.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} لأنفسهم بالمعصية فيعفو عنهم، إذا عرف منهم صدق النية في التوبة، والإخلاص في الموقف، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} للمتمردين والعاصين والمعاندين الذين يصرّون على الكفر والمعصية. وربما كان المراد من المغفرة هنا، إمهال الله لعباده العصاة، أو الكَفَرة، وعدم تعجيل العقوبة لهم، باعتبار أن الآية تتعرض لحالةٍ واحدةٍ تتعلق بالكافرين، ولا تتحدث عن صفات الله في المطلق، وهذا احتمال قريبٌ، لولا أن الأسلوب القرآني قد درج في أكثر موارده على هذا النوع من الحديث عن الله بشكلٍ عام، في نطاق الأمور الجزئية دون الارتباط بالحالة الخاصة.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} في أسلوب خبيثٍ هدفه إظهار النبي عاجزاً أمام الناس لمعرفتهم المسبقة بعدم استجابته لمثل هذه الطروحات، أو لاعتقادهم بعجزه عن ذلك أو لتخيلهم عدم صدقه في دعواه النبوّة، كونها متلازمة ـ في زعمهم ـ مع المعجزة الكونية الظاهرة، وهذا هو المراد من الآية وهي المعجزة. {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} تنذر الناس عقاب الله إذا كفروا أو عصوا، ولست معنيّاً بتغيير الظاهرة الكونية في هذا الموقع أو ذاك، لأن ذلك ليس شأن الأنبياء أو مهمتهم، إلا في الحالات الصعبة التي يفرضها التحدي أو تقتضيها مصلحة الرسالة، لأن المعجزة ليست أسلوباً يُراد منه إخضاع الناس للفكرة، بل هي وسيلة من وسائل توضيح الصورة في بعض المواقف، وإزالة الإشكالات في بعضها الآخر، والله يريد للإنسان أن يحصل على القناعة من موقع الفكر والتأمل والحوار، في ما يقدّمه النبي في رسالته، من أفكار وأساليب تدعم صدق الرسالة، وتؤكد مضمونها لدى الناس، في خط الهداية الذي يوصلهم إلى الإيمان والطاعة ويقربهم من الله، وينظم أمورهم على أساس الهداية. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} يقيم عليهم الحجة في ما كانوا يجهلونه، فيعرّفهم كل تفاصيله ويدفعهم إلى الالتزام العملي بما يعرفونه، ويوجههم إلى وسائل ذاك الالتزام. وبذلك يتحرك خط الهداية في حركة الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء، التي يريد الله لها أن تحتوي الساحة كلها، فلا تترك موقعاً بعيداً عن نشاطها.

وقد نستوحي من ذلك كيف ينبغي للدعاة إلى الله، العاملين في سبيله، أن يؤكدوا على هذه الشمولية في عمل الدعوة في خط الهداية، ليملأوا المواقع كلها بالمبلّغين والوعاظ والمرشدين الذين يبلغون رسالات الله، ويرشدون الضالين، لدخول كل القلوب وفتح كل الأبواب للحق.