تفسير القرآن
الرعد / من الآية 8 إلى الآية 11

 سورة الرعد الآيات 8-11
 

بسم الله الرحمن لارحيم

الآيــات

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ* عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ* سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَـاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (8 ـ11).

* * *

معاني المفردات

{تَغِيضُ}:الغيض: ذهاب المائع في اتجاه العمق، ويستعمل الغيض في النقصان، وهو المراد هنا.

{الْمُتَعَالِ}: المستعلي على كل شيء.

{وَسَارِبٌ}: السارب: الجاري بسرعة.

{مُعَقِّبَاتٌ}: حفظة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله.

* * *

صفات الله من خلال عظمة الخلق وامتداده

كيف يتصور الإنسان الله، وكيف يحاول الوصول إلى أجواء المعرفة وحدودها؟ هل يستغرق في ذات الله ليتعرف حقيقته وكنهه؟ أو ينصرف إلى صفاته التي تتجلّى في طبيعة الألوهية ومفهومها وفي عظمة الخلق وامتداده؟

إن القرآن يدفعنا إلى النهج الثاني، لأن الاستغراق في ذات الله لا يؤدي إلى أيّة نتيجةٍ في حساب المعرفة، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخضع في وجوده للحس ليعرفه الناظرون واللامسون، بل هو فوق الحسّ كله، يحيط بالأشياء ولا يحيط به شيء، فلا مجال لتحديد حقيقته، لأنها لا حدود لها، ولا مجال لمعرفتها لأنه لا سبيل إليها. فلا بد من أن نعرف الله في آثار خلقه، ومظاهر عظمته، ومواقع نعمته، وهذا ما أرادت هذه الآيات أن تثيره في وعي الإنسان ووجدانه من تصور للألوهيّة في اعتقاد الإنسان بالله.

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} فهو الذي أبدع سرّ الخلق في وجود الإنسان في أحشاء أمه، ومن البديهي أن يحيط علماً بكل شيء يتصل بمن خلق، فهو اللطيف الخبير.

{وَمَا تَغِيضُ الأرحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} لعل المراد بما تغيض الأرحام: ما تنقصه فلا يعود شيئاً، وهو السقط الذي يقلّ حمله عن ستة أشهر، فيسقط قبل أن يكتمل نموه، والمقصود بـ«ما تزداد»: ما يولد لأكثر من تسعة أشهر، ويرى صاحب الميزان: أن الأنسب للمعنى اللغوي ـ الذي ذكره الراغب في المفردات، من أن كلمة {تَغِيضُ الأرْحَامُ} أي تفسده الأرحام، فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض ـ أن يكون المراد به دم الحيض الذي ينصبُّ فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، وما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس والدم أو الحمرة التي تراها في أيام الحمل أحياناً[1].

وقد يستظهر القارىء، من خلال الجوّ السياقيّ للآية، أن التعبير واردٌ على سبيل الكناية في طبيعة أوضاع الحمل في رحم الأنثى، مما قد يسقط، فلا يبقى له أثر في الرحم، كالماء الذي لا يبقى له أثر في الأرض، فينقص، لأنه لم يضف إلى الوجود شيئاً، أو أنه وُجد، ثم زال. أما ما يزداد فهو الذي يستقر ويبقى أو يتكاثر، فليس الحديث عن شيء آخر تحمله الأنثى بل هو تفصيل له، والله العالم.

{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} حيث تضع الحكمة الإلهية للأشياء حدوداً على مستوى الكمّ والنوع والشكل والجوّ الذي يحيط بها، تبعاً لحاجات النظام الكونيّ إلى بلوغ غايته في حركة الحياة، فلا مجال للعبث أو للفوضى أن تبعد الأشياء عن الخضوع لقاعدة تحكمها، أو لقانون يسيطر عليها. فقد جعل الله للكون قوانينه ونظمه التي تحدّد للأشياء مسارها، وللإنسان نظامه، وهذا ما جعل العلماء، في كل دراستهم للظواهر الكونية، ينطلقون من قاعدة مسلّمةٍ، وهي: أن لكل واحدة منها سرّاً خفيّاً، ونظاماً متقناً، قد لا يدركه الباحث في البداية لغموضه، ولكنه يصل إليه، من قريبٍ أو من بعيد، عندما يتحرك نحوه من موقع البحث والتحليل والتأمّل.

{عَالِمُ الْغَيْبِ} الذي لا يدركه الحس، في الحاضر والمستقبل، {وَالشَّهادَةِ} الذي يمثل الحضور الحسّي للأشياء التي لا يمتنع فيها الإدراك البسيط بأدوات الإحساس، {الْكَبِيرُ} الذي يصغر كل مخلوقٍ أمام حجم عظمته، ويتصاغر كل عظيم عنده، {الْمُتَعَالِ} الذي لا يبلغ أحدٌ علو شأنه ورفعة قدره، فهو المتعالي على كل شيء من حقيقة موقع العلو الذاتيّ في وجوده. وهذا ما يجعلنا نقف أمام جلاله العظيم، في خشوع العبد أمام سيّده، والمخلوق أمام خالقه، لنشعر بأنه يحيط بكل شيءٍ لدينا وفينا ومعنا وحولنا من كل ما خفي وما ظهر، فلا يغيب عن علمه شيء، ولا يقترب من علوّه وعظمته شيء، {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} لأن الإنسان هو الذي يختلف عنده حال الجهر وحال السرّ من خلال ارتباط وعيه للمسموعات بأدوات السمع عنده. أما الله الذي أحاط بسر الإنسان، حتى عندما يكون قوله فكرةً في الذهن، فإن الجهر والسر يتساويان في موقع علمه، {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالليْلِ} يستتر بظلامه فلا يراه أحدٌ {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} بما يظهره نور النهار في ملامحه ومظاهر حركته، لأن الظلام قد يحجب عن الإنسان معرفة ما في داخله، ولكنه لا يحجب عن الله ذلك، لأنه مطّلعٌ عليه بحضوره عنده، لأن الأشياء كلها حاضرة لديه في كل مواقع علمه.

{لَهُ مُعَقِّبَـاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وتدخل الآية ضمن حديث الله عن تدبيره لحياة الإنسان عبر قواعد وضوابط وقوانين تحكمها في ثلاث نقاط:

1 ـ إن الله قد جعل للإنسان في حياته عوامل وعناصر تحيط به من كل جوانبه وتتعاقب على مدار الساعة بحيث يتبع بعضها بعضاً بشكل متواصل، وهذا ما عبّر عنه بالمعقّبات التي تتناوب في حياته، فلا تتركه وحده، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بما يمثله ذلك الأمر من أوضاع وأخطار تجرها إليه سنن الله المودعة في الكون، مما قد يهدم حياته، ويهزم استقراره، إذا واجهها وحده، دون ما وفره الله لصونه من عناصر الحماية والدفاع في نفسه وجسده، بحيث لا يشعر الإنسان بالقلق والضياع أمام الكون الكبير المملوء بالأخطار والمهالك، بل يشعر بالثقة الكبيرة، لما ركّبه الله في داخله من أجهزةٍ، وهيّأ له من أسبابٍ، وما أحاطه به من عنايةٍ ورعايةٍ. فحسبه أنه يتحرك في أجواء الحفظ الشامل من قبل الله.

2 ـ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}: وهي النقطة الثانية في تدبير الله لأمر الإنسان، فهو لم يخضع الإنسان للقوانين الحتمية التي تتحكم به وتصوغه بطريقةٍ جامدة ثابتةٍ لا يملك معها لنفسه أية فرصةٍ للتغيير وللتبديل، بل خلقه خلقاً حيوياً يتحرك بفعل الإرادة المتحركة التي تتنوّع فيها الأفكار والمواقف، ما يجعل مصيره محكوماً لإرادته، فهو الذي يصنع تاريخه بقراره الإرادي الحر، وهو الذي يملك تغيير واقعه بتغيير الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تحكمه وتحرك حياته، فقد أراد الله للإنسان أن يملك حريته، ويتحمل مسؤولية نفسه من موقع هذه الحرية، كما أراد أن يدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه.

وعلى ضوء ذلك، نستطيع اعتبار العامل الأساس في التغيير هو الإنسان بما يحمله من مفاهيم وأفكار حول الحياة الدائرة حوله، ذلك أن المشاريع المتنوعة التي تحكم الواقع، تبدأ كفكرةٍ ثم تتحول إلى مشروع، وهذا ما يؤكد تكريم الله للإنسان في إرجاع أمره إلى نفسه، فهو الذي يغيّر واقعه بتغيير نفسه، وهو الذي يغيّر نفسه بعمق إرادته وامتداد أفقه.

3 ـ {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}: فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في مستقبل الإنسان، في حياته وموته، في قوته وضعفه، وفي صحته ومرضه، وهكذا يملك الله إيقاع السوء بالإنسان، كما يملك دفعه عنه، ولا يملك أحدٌ له شيئاً إذا أراد الله به شيئاً {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم ويدفع عنهم ذلك كله. وهذا ما يؤكّد للإنسان ارتباطه بربّه بالمستوى الذي ينقطع بذاك الارتباط عن غيره، طلباً لحماية نفسه من أيّ شر، الأمر الذي يدفعه للابتعاد عن إقامة أيِّ علاقةٍ مع الآخرين بغرض تأمين الحماية لذاته، فالله هو الذي يجب أن يفكر به من هذه الناحية، بالإضافة إلى النواحي الأخرى التي تفرض على الإنسان أن يعبد الله من موقع حقيقة الألوهية فيه، والعبودية في الإنسان.

ـــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:11، ص: 307.