من الآية 12 الى الآية 15
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ*وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ* لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ* وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ} (12ـ15).
* * *
معاني المفردات
{السَّحَابَ الثِّقَالَ}: السحاب المثقلة بالماء.
{الْمِحَالِ}: الكيد، والمكر الحق، وشديد المحال شديد القدرة والعذاب، وقيل شديد القوة والعذاب.
{بِالْغُدُوِّ}: جمع غدوة، والغدوات جمع غداة، وهي الصباح.
{وَالآصَالِ}: جمع أصيل وهو المساء ما بين العصر والمغرب.
* * *
ارتباط الظواهر الكونية بالله
وتتابع صفات الله.. ليصل الحديث إلى الأفق الواسع الذي يحتوي الحياة كلها، فإذا بالظواهر الكونية لا تتحرك من مواقعها المحدّدة، بل تتحول إلى هاجسٍ داخلي ينتظر فيها الإنسان رحمة الله، أو يخاف عذابه. فيرتبط بخالقه ارتباط الحياة به، حيث يجد الأمن والملاذ والأمل والطمأنينة، وتلتقي العقيدة بالحياة من أقرب طريق، ويتصل الإيمان بحركة الكون على أفضل وجه.
{هُوَ الَّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الذي يلمع في الأفق فيأخذ بالبصر ويخطفه، {خَوْفًا} بما ينذر به من صواعق قد يصيب بها من يشاء فتحرقه وتدمّر ما حوله، {وَطَمَعًا} بما يبشر به من مطر يبعث الخصب في الأرض ويملأ الينابيع ويدفع بالحياة إلى موسمٍ أخضر جديد، {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} المثقلة بالماء وذلك من خلال المؤثرات الكونية التي توجد المطر وتدفعه إلى الأرض، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} والتسبيح تعبيرٌ عن الإحساس بالعظمة وتنزيهه عن كل نقص. وبذلك أمكن لكل شيءٍ أن يسبّح بحمده بمختلف الوسائل، سواء كان بالكلمة، أو بالصورة، أو بمظهر العظمة، أو بروعة الإبداع، أو بسرّ المعنى الكبير الكامن فيه. إنه الفرق بين الكلمة التي تسبح بمدلولها ومعناها، وبين الوجود الذي يسبِّح بحضور الحقيقة فيه.. وهكذا يجد الإنسان في كل شيء تجسيداً لتسبيح الله، والثناء عليه، بما يدل عليه من معاني العظمة والتنزيه له.
{وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} بما يتمثلونه من خشية الله وإحساسٍ بعظمته، فيسبحونه إعلاناً للطاعة، وابتعاداً عن المعصية، ورغبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. إنه الخوف الذي يحرّك الإحساس بالمسؤولية في وعي المخلوق، انطلاقاً من الإحساس الواعي بالعظمة، وليس الخوف الذي يسحق الذات ويسقط إحساسها بالحياة، {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يشاءُ} ويصرفها عمن يشاء، وهذا المعنى يوحي به جوّ الآية، ولعل الاقتصار على فقرة التخويف بإرسال الصواعق، سببه أنّ السياق هو سياق التخويف والترهيب.
{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} بين من يشك فيه وبين من يشرك به، من دون حجةٍ يستندون إليها، ولا برهان يعتمدون عليه. وبذلك يخبطون خبط عشواء في جدالهم، منطلقين من استبعادات لا أساس لها، أو موروثاتٍ لا حجة عليها. ولو انفتحوا على آيات الله في الكون، وتأملوا في مظاهر عظمته ومواقع نعمته، لما جادلوا بالباطل، بل لكانوا انطلقوا في طريق الحق بكل قوّةٍ وانفتاح، ولأدركوا كيف ينبغي لهم أن يخافوا الله ويحذروا عقابه، فلا يستهينوا بتوحيده. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد القوّة والقدرة، فلا يعجزه هؤلاء الذين يجحدونه أو ينكرون توحيده، أو يتمرّدون عليه، فسيأخذهم بالعذاب أخذ عزيز مقتدر.
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} بما يوحيه إلى رسله من فكرٍ يلتزم به الناس، وعمل يقومون به، ومنهج يتبعونه، ومفاهيم يحملونها، وشريعةٍ يسيرون عليها على أساس الحق، دون أن يترك أيّة ثغرةٍ تُحدث فراغاً في أفكارهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة. وهكذا تكون الاستجابة لله استجابة للحق في كل شيءٍ، وانطلاقةً في الصراط المستقيم الذي لا يقترب إليه الانحراف، لأن الباطل إنما يكون نتيجة فقدان الوضوح في الرؤية، أو نتيجة عقدة ضعفٍ تحركها حالة رغبة أو رهبة تستغل الباطل في الوصول والهروب.
* * *
الخضوع لعظمة الله
والله هو القادر على كل شيء، والغنيّ عن كل أحد، والمتعالي على كل ذلك، والمحيط بكل شيءٍ حيٍّ علمه. من هنا تلتقي دعوة الحق التي يحملها الأنبياء بالتوحيد المطلق لله الذي يجعله الرب والملاذ والمرجع في كل شيء، في الفكر والعاطفة والحياة وفي الشريعة والمنهج والطريق، فلا إله إلا هو، ولا فكر إلا وحيه، ولا شريعة إلا شريعته، ولا حياة إلا الحياة التي تنطلق من هداه وتلتقي برضاه. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} ويعبدون غيره، مما سوّلت لهم أنفسهم اعتبارهم شركاء لله لضعف يعتري أنفسهم ويسحقهم أمام مظاهر القوة التي يملكها أولئك الشركاء الوهميون. إنه الباطل الذي لا ينطلق من أساس ثابت، ولا يحقق لدعاته أو للسائرين معه أيّة حمايةٍ أو رعايةٍ، فهؤلاء الرموز من الشركاء {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيٍ} في أيّ مطلب يتقدمون به، فليس مثلهم في ذلك {إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} دون أن يرفعهما إلى فمه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} نتيجة المسافة بين موقع الماء وموقع فمه، فلا يكون لهم من الطلب إلاّ صورته فقط دون أيّة نتيجةٍ إيجابية، تماماً كما هو حال صاحب المثل الذي يطلب الري بعيداً عن أسبابه الطبيعية. {وَمَا دُعَآء الْكَافِرِينَ} في التزامهم بعبادة هؤلاء الشركاء {إِلاَّ فِي ضَلالٍ}، لأنه لا يلتقي بالجانب المشرق الذي يهتدي به الناس إلى سواء السبيل.
* * *
ولله يسجد ما في السموات والأرض طوعاً وكرهاً
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَـواتِ وَالأرْضِ} بما يمثله السجود من الخضوع المطلق لله على مستوى المظهر في تعفير الجبهة في الأرض، أو في الانقياد الإراديّ لأوامر الله ونواهيه، أو في استجابة الموجودات للنظام الكوني الذي يحكمها في الأرض أو في السماء. إنه السجود الذي ينطلق من مبدأ الخضوع، ولكنه يتنوّع في مظاهره وأشكاله. {طَوْعًا وَكَرْهًا} لدى المخلوقات التي تملك إرادة تتحرك من خلالها في الحياة، أو لدى الموجودات التي لا تملك الحسّ والعقل والإرادة، فتسير طبقاً للسنن الكونية التي أودعها الله فيها بحكمته، {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ} الظاهر أن المراد منها ظلال الأشياء التي تسجد لله، في طريقة وقوعها على الأرض، تماماً كما هو الساجد الذي يخرّ بسجوده إلى الأرض، وذلك كناية عن شمول السجود لكل الأشياء، حتى للظلال التي هي خيالات الأجسام. وقد خص تعالى الغدوّ والآصال بالذكر، لأن الظل يمتد ويطول في هذين الوقتين دون وقت الظهيرة؛ والله العالم.
تفسير القرآن