تفسير القرآن
الرعد / الآية 16

 الآية 16
 

بسم الله الرجمن الرجيم

الآيــة

{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(16).

* * *

قل الله خالق كل شيء

وينطلق الأسلوب القرآني في إثارة الحوار مع المشركين حول مسألة التوحيد والشرك، ليدفعهم من خلال ما يقدمه إليهم من براهين، إلى التفكير ومواجهة الواقع بما يصلون إليه من نتائج حاسمة على مستوى العقيدة، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـواتِ وَالأَرْضِ} الذي خلقها وأوجدها، وحرّك ما فيها من ظواهر وموجودات؟ {قُلِ اللَّهُ}، ولا تنتظر منهم جواباً، لأن الموضوع ليس محل خلاف لديهم، فالشرك المتمثل في عبادتهم للأوثان، لا يمنعهم من الاعتراف بالله الذي هو مصدر خلق الكون، إلا أن هؤلاء الشركاء ـ كما يوحي القرآن ـ يعتقدون أنهم يملكون الحظوة عند الله، كما لو كانوا آلهةً صغاراً يتصلون بالإله الكبير، {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} تعبدونهم وتستنصرونهم، وترجعون إليهم، وتدعونهم من دون الله. وليس الاستفهام وارداً هنا لطلب المعرفة، بل للإنكار، لأن الذي يرتبط بإلهٍ غير الله، لا بدّ من أن يبحث فيه عن بعض ملامح الألوهية وصفاتها، بما تمثله من شمولية القدرة وامتدادها وعظمتها، فكيف يمكن أن يكون هؤلاء كذلك وهم {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضراً}، وهذا أمر تكشفه التجربة الحيّة لطبيعة قدرتهم المحدودة، حيث يتبدى عجزهم أمام أيّة حالة اعتداء عليهم، أو أيّة حالة ضعفٍ تعرض لهم، فهم خاضعون ـ في جانب جلب النفع أو دفع الضرّ ـ للعوامل المحيطة بهم، المرتبطة بقدرة الله الكونية في علاقة المسبّبات بالأسباب.

إنها الظاهرة التي تدعو إلى التأمل وعدم إعطاء الأشياء حجماً أكبر منها، بجعلها ترتفع إلى موقع لا تستحقه عبر التفكير الواعي بنقاط الضعف الكامنة في طبيعة الأشياء، وعدم الاستغراق في نقاط القوّة. {هَلْ يَسْتَوي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي الكافر الذي يشبه الأعمى، لأنه لا يحاول معرفة الأمور من مواقع الإشراق التي تكشف حقيقتها، ذلك أن حالة العناد والتمرد قائمة من الجهل الذي يجعله يهمل البراهين التي تقدم له ولا يفكر فيها، وتكون نظرته إلى الأمور سطحية ومن وراء ضباب كثيف. أما المؤمن، فينطلق من موقع النظرة العميقة المنفتحة في نطاق الحجة الواضحة، والبرهان المشرق، والرؤية البعيدة، فهو مشرق في فكره وفي قلبه، وفي انطلاقته في خط الإيمان. إنه الفرق بين الأعمى في قلبه، وبين البصير في عقله، تماماً كالفرق بين الأعمى والبصير في عينيه، هل يستويان: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَات وَالنُّورُ} بما تمثله أجواء الكفر من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، وبما تمثله أجواء الإيمان من نورٍ فوق نور، هل يستويان مثلاً في النتائج التي يحصل عليها الإنسان السائر في هذه الأجواء أو تلك، على مستوى التفكير، وتقييم الأمور، وطبيعة النظرة إليها والمصير؟

{أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}، لأن الشرك الواقعي ينطلق من دراسة شيئين ومقارنتهما على مستوى الطبيعة والصفات، فإن تشابها أو تقاربا أمكن وضعهما في مستوى وموقع واحد، فإذا كان أحدهما من موقع الألوهية لقدرة أو صفة محددة يملكها، فمن الطبيعي أن نضع الآخر في هذا الموقع، على أساس التساوي أو التشابه، ولكن ذلك لا مجال له عند المقارنة بين قدرة الله وقدرة من اتخذهم المشركون شركاء، فإن الله هو الذي خلق الكون كله وباعترافهم، ولم يخلق هؤلاء شيئاً منه، {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فكيف يساويه غيره من العباد الذين لم يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، {وَهُوَ الْوَاحِدُ} في ربوبيته وفي قدرته المطلقة التي لا يحدّها شيء، وفي كل صفاته الحسنى {الْقَهَّارُ} في جبروته وعظمته، فلا يقترب منه أحدٌ، ولا يساويه شيء، فله الملك وله الحمد والمجد والكبرياء، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.