من الآية 19 الى الآية 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالملائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ* وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (19ـ25).
* * *
معاني المفردات
{وَيَدْرَأونَ}: يدفعون.
{عُقْبَى}: من العاقبة وهي النهاية التي تؤدي إليها البداية إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{عَدْنٍ}: الإقامة.
* * *
صفة المؤمن وصفة المنافق
ما هي صفة المؤمن بالله، وكيف يتعامل مع الناس والحياة، وكيف يقيم علاقاته العامة والخاصة؟ هل يخضع للّعبة الشيطانية التي تفسد الكون من حولها أو يتمرّد عليها ليصلح الساحة من حوله؟ وما هي مسؤوليته أمام الله ومع الناس؟ هل هو سلبيٌّ أو إيجابيّ؟ وما هي صفة الكافر أو المنافق في مقابل ذلك؟
تحدد هذه الآيات الملامح البارزة للمؤمن وغيره، من موقع العقل الذي يحركه بإيجابيةٍ ووعيٍ، بينما لا يملك الآخرون أن يحرّكوه في الاتجاه السليم.
من يعلم ليس كالأعمى
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ}، لانفتاح قلبه على النيات والدلائل الواضحة وتحريك فكره، للحصول على قناعة ثابتة من موقع وضوح الرؤية للأشياء بمستوى الإيمان، بأن النبي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، بما يمثله الوحي من منطق الحق القادم من رحاب الله. هل يمكن أن يكون هذا {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} لا يبصر النور الذي يتفايض على الكون من حوله ليملأه إشراقاً وانفتاحاً على حقائق الحياة؟ ومن ثَمَّ، فإنه لا يستطيع إدراك القضايا المعقّدة التي لا تحتاج إلى إشراق المعرفة ووضوح الرؤية، ولا يتمكن من أن يفتح صفحة حياته ليتذكر فتنفعه الذكرى، في تنظيم حياته على منهج سليم؟
* * *
صفات أولي الألباب
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَـابِ} أي ذوو العقول الذين يعون مسؤولية أعمالهم، ويتحملون نتائجها بكل وعيٍ وصبرٍ، ويرتفعون إلى مستوى المسؤولية الكبيرة بقوّةٍ وانفتاح، ولا يتجمدون أمام المشاكل الكثيرة التي تصادفهم في الطريق، فيسقطون عندها، ويتراجعون عن أهدافهم الكبيرة.
هكذا نفهم دور العقل في حركة الشخصية المتوازنة في الإسلام، وهكذا نقدِّر قيمته في إثارة التأمل في حقائق الحياة، وفي استعادة التجربة الماضية واستفادة العبرة للمستقبل منها، وليتفهم الإنسان من خلال التعمق في فهم القضايا، كيف يمكن أن يخطط لحياته على أساسٍ واضحٍ وسليم، ونستوحي من ذلك كيف يريد الإسلام للعقل أن يرتبط بالواقع، ولا يغرق في خيالات التجريد، لأن هدف الفكر هو خدمة الحياة في حركة الواقع، لا خدمة التنظير في رحاب الخيال.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} ويلتزمون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان به وبرسله وبكتبه وبشريعته، وبما عاهدوا عليه الناس أمام الله أو من خلال شريعته، من التزاماتٍ عقديةٍ أو شخصيةٍ أو جماعيةٍ، أو من مواثيق أخلاقيّةٍ في نطاق السلوك الاجتماعي العام، {وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} لأن المسألة عندهم ترتبط بالقاعدة الأخلاقية للشخصية المتوازنة في خط السلوك العملي الذي يحكم كل حياتها.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من العلاقات الإنسانية على مستوى الأرحام والجيران والمؤمنين، والمستضعفين الذين يحتاجون إلى الرعاية. أما كيفية الصلة، فلا يمكن تحديدها في أسلوب أو وسيلة، بل تشمل كل الإمكانات التي تجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر، وتسهّل لهم سبل الحياة، وترفع مستواهم في كل جوانب المعرفة والعمل. وعلى ضوء ذلك، نستوحي أن المؤمنين لا يعيشون اللاّمبالاة والعزلة عن الناس من حولهم، بل يلتصقون بالمجتمع من موقع المسؤولية التي فرضها الله على الناس في التواصل والتبادل والتراحم والتعاطف، الذي يجعل الحياة وحدةً روحيةً وعمليةً على طريق الله.
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}، فيدفعهم خوفهم من الله إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومراقبته في كل شيءٍ في السرّ والعلانية، ويقودهم خوفهم من الحساب الدقيق الذي يلاحق كل أعمالهم السيئة بالتدقيق والمحاسبة، إلى الانضباط في خط السير، فلا ينحرفون تحت تأثير شهوةٍ، ولا يسقطون تحت رحمة نزوة، بل يتوازنون في موقفهم الإيماني أمام المسؤولية.
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}، بما يمثله الصبر من التزامٍ عمليٍّ بما يحبه الله ويرضاه، على الرغم من النتائج السلبية لذاك الالتزام، وما يجري عليهم من الآلام ومن خسائر مادية ومعنوية نتيجة الحرمان على أكثر من صعيد. وهؤلاء الصابرون لا ينطلقون في موقفهم الصامد من حالةٍ ذاتية، بل من التقرب إلى الله في معاناتهم وتحمل الآلام والتضحيات. وبذلك يتعمّق الصبر في نفوسهم كحالةٍ نفسيةٍ جهاديةٍ عميقةٍ، في عمق الارتباط بالله والإيمان به.
{وَأَقَامُواْ الصّلاة} التي تفتح قلوبهم لله، وتعرج بأرواحهم إليه، وتدفعهم للتفكير الدائم بالإخلاص له في موقع الممارسة العملية للعبودية المطلقة له، أمام الألوهية القادرة الرحيمة، فيعيشون الحرية أمام العالم كله، لشعورهم العميق بالعبودية لله، وتتأكد كل القيم الكبيرة في الحياة، من خلال ما تخلقه روحية الصلاة في ركوعها وسجودها وكلماتها من آفاقٍ روحية ومناهج عملية، تلتقي بالجانب المشرق من الفكر والحياة.
{وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} بما يمثله الإنفاق من معنى العطاء الذي يمتد من روح الإنسان المتحركة بالخير، إلى حياة الآخرين، ليشبع جائعاً وليروي ظامئاً وليكسو عرياناً وليغيث ملهوفاً، وليقضي حاجةً وليفرّج كربةً وليقوّي ضعيفاً أو يعلِّم جاهلاً أو يهدي ضالاً، إلى غير ذلك من موارد الإنفاق في سبيل الله الذي يتحرك في حالة السر عندما تدعو الحاجة إلى الإسرار بالإنفاق لحفظ كرامة الإنسان المحتاج، أو يتحرك في حالة الإعلان عندما تدعو الحاجة إلى الإعلان، لتشجيع الآخرين على ذلك أو لتسجيل موقفٍ في هذا المجال لمصلحةٍ إنسانيةٍ أو إسلامية.
{وَيَدْرأونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} بانفتاحهم على الجانب الإنساني الخيّر من شخصية الإنسان الذي يعيش رحابة الصدر، وسعة الأفق وإنسانية النظرة وروحية المعاملة، فلا يتعقّد من الإساءة إليه ليتحوّل ذلك إلى حالةٍ مرضيةٍ في نفسه، بل يحاول أن يمتص السلبيات ليحوّلها إلى إيجابياتٍ، ويواجه السيئات بروحيةٍ تطمح إلى تبديلها بالحسنات، فيحسن لمن أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويصل من قطعه، حتى يجعل من ذلك حافزاً يدفع الطرف الآخر للتراجع عن خطئه، والرجوع إلى ربه، انطلاقاً من القناعة بأن الفعل الأخلاقي متعلق بالإحساس الداخلي بالمبدأ، لا من موقف رد الفعل، باعتبار القيمة الأخلاقية عمليةً تبادلية يقدّم فيها الإنسان إلى الآخرين مقابل ما قدموه إليه، أو ينتظرهم ليتسلموا زمام المبادرة في عمل الخير معه.
وعلى ضوء ذلك، نستطيع أن نفهم كيف يعدّ الإسلام الإنسان المسلم لقيادة الحياة من حوله، ليتغلب على كل سلبياتها الانفعالية، بواسطة عقله الذي يخطط للمستقبل الواسع، إذا فكر الناس من حوله بالزوايا الضيّقة للحاضر، وبواسطة روحه التي تنفتح على مشاكل الآخرين، بالروحية التي تعمل على حلّها، لا على تعقيدها، فإن ذلك هو السبيل للسيطرة على الساحة، بسياسة الاحتواء الفكري والأخلاقي الذي لا يترك جانباً فارغاً من الخير، أو من الحركة الجدّية في اتجاه التجربة الواقعية لأعمال الخير.
{أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} حيث يجمع الله الذين كانوا يعيشون جوّ الصلاح في الدنيا في علاقاتهم الاجتماعية الحميمة، بحيث لا يفقدون في الآخرة أجواء المشاعر الذاتية التي كانت تهز وجدانهم وتثير أرواحهم في الدنيا.
ويتكامل الجو الروحي إلى أعلى المستويات، بلقائهم في الملأ الأعلى مخلوقات الله، الذين يتلقونهم بالترحيب والإكرام والبشارة من الله، {وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ}، ليرتفعوا بهم إلى الجو الملائكي السامي العابق بروحانية الإخلاص لله، في إحاطةٍ شاملةٍ ورعايةٍ كبيرة، فلا يجدون للغربة أيّ مكان في مشاعرهم، بل يجدون بدلاً من ذلك الأنس والفرح العظيم
{سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، إنها كلمة السلام التي تحمل كل معاني الأمن والطمأنينة والصفاء والانفتاح على رحابة الواقع الجديد، حيث يشعرون فيه بقيمة المعاناة الشاقة التي عاشوها في الدنيا، مع صبرهم على كل المكاره التي واجهتهم في خط الالتزام الشامل. فعاقبة الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، وجزاء العاملين في سبيل الله، دار الله وجنّته التي أعدّها لعباده المتقين، الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، فنعم أجر الصابرين.
* * *
الناقضون للعهود
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}، وهذا هو الجانب الآخر من الصورة الاجتماعية للعلاقة مع الآخر، فهؤلاء لا يلتزمون بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه بشكل مباشر، أو غير مباشرٍ، ويتراجعون عن التزامهم التعاقدي مع الناس بعد عهدهم الموثق معهم، لأنهم لا يملكون القاعدة الروحية التي تجعلهم يحترمون كلمتهم وعهدهم، وتجعلهم يخافون ربهم في ما يقومون به أو لا يقومون به. فهم يربكون بأعمالهم هذه حياتهم وحياة الناس من حولهم، ويعرضونها للاهتزاز بفعل جو انعدام الثقة الذي تخلقه تصرفاتهم بين الناس، لأنها تهز أسس التعامل في تنظيم العلاقات بين الناس.
{وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، من خلال ما يملكونه من إمكاناتٍ ومواقع وفرصٍ وامتيازاتٍ عامةٍ وخاصةٍ، يستغلونها في عملية إفساد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، ليحصلوا من ورائها على أرباحٍ لحسابهم الخاص، أو لحساب من يتبعونهم من دون الله، بالإساءة إلى البلاد والعباد، فينصرون الظالم، ويخذلون العادل، ويشجعون المجرم، ويدعمون الخائن، ويضغطون على كل أعمال الخير ودعوات الإيمان، {أُوْلَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} التي تبعدهم عن رحمة الله ورضوانه بسبب أعمالهم التي أبعدتهم عنه، وجعلتهم يستحقون اللعنة، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} في نار جهنم التي لا تجد داراً أشد سوءاً منها، لما تشتمل عليه من عذاب وعقاب أبديّ خالد.
تفسير القرآن