من الآية 32 الى الآية 34
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ* أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ* لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (32ـ34).
* * *
معاني المفردات
{فَأَمْلَيْتُ}: أمهلت.
{قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ}: رقيب عليها ومدبر لأمورها.
* * *
أخذ العبرة والعظة من التاريخ
يبقى للتاريخ دور العبرة والعظة والإلهام للأجيال المقبلة، في جوانبه السلبية والإيجابية، في ما يريد الله للناس أن يستلهموه ويتعظوا به لحياتهم المستقبلية في كل قضايا الحياة، من دون أن يتحملوا مسؤوليته، لأن التاريخ مسؤولية الأجيال التي صنعته، وللآخرين مسؤولية العبرة والاستيحاء.
وهكذا يريد الله للناس الذين عاشوا الرسالة في بداية الدعوة، أو الذين جاؤوا بعدها، كما يريد للذين يحملون مسؤولية الرسالة في الدعوة وفي الممارسة، أن يدرسوا تاريخ الرسل السابقين، ليستفيدوا من التجربة الحية الواعية في انطلاقة الرسالة، ويغذوا بمعطيات تجربة المرحلة السابقة مرحلة أخرى، لا ترتبط بزمن محدد، بل تمتد بامتداد حركة الحقيقة الخالدة في الحياة، لتتكامل المسيرة على مستوى تكامل المراحل، وتتتابع الدروس والعبر على مستوى القضية الواحدة.
* * *
تجربة الرسل من قبل
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} أي من قبل أصحاب الامتيازات الطبقيّة والعائلية والاقتصادية الذين يحتلون مواقع القيادة الفكرية في المجتمع، والذين هم غير مستعدين للاستجابة لمن هم أراذل الناس بادي الرأي، لا سيما إذا كانت الأفكار التي يطرحونها بعيدةً عن المألوف من عاداتهم وعقائدهم، وغريبةً عن تراث الآباء والأجداد، فيواجهونهم بالسخرية والاستهزاء ضد مواقعهم الاجتماعية وأفكارهم الغريبة. {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فلم أعاجلهم بالعقاب، بل تركت لهم الفرصة، في المال والعمر والموقع والظروف، ليمتدوا ما شاءت لهم ظروفهم تلك في الامتداد، على ما هم فيه، لتقوم الحجة عليهم في ما اعتقدوه ومارسوه من أعمال، واتخذوه من مواقف، فحقّ عليهم القول، وعاجلتهم بالعذاب الشديد في الدنيا قبل الآخرة، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وكيف تساقطوا أمام العقاب فلم ينفعهم ما كانوا فيه ولم ينصرهم أحد ممن كانوا يعبدونهم من دون الله.
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ويعلم خفاياها وأسرارها، ويملك كل أمورها في ما يدبّر به أمر خلقه، ويسيطر عليها في كل ما تقوم به من أعمال وتتخذه من مواقف، ويملك مجازاتها في كل شيء، كمن هو مخلوقٌ في نفسه، محدودٌ في قدرته، من هؤلاء الشركاء الذين دعوهم من دون الله، دون حجّة أو برهان، كما يوحي قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ}، كالأصنام التي عبدوها، والأشخاص الذين أطاعوهم في معصية الله، {قُلْ سَمُّوهُمْ} وأشيروا إليهم بالأسماء التي تليق بالإله والمعبود الذي يتميّز بصفات القدرة والعلم والغنى والخلق والرزق وغيرها من صفات الجلال والكمال، فهل تستطيعون ذلك؟ وهل يثبت هذا الموقف أمام الحقيقة؟ إن النتيجة ستكون سلباً، وستواجهون الخزي والعار في دعواكم هذه.
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} هذا التعبير كناية عن عدم وجود ما لا يعلمه الله محيط بكل شيء، فلو كان له وجود لعلمه، {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} مما لا يثبت أمام النقد، ولا يرتكز على حقيقة، كما في الكثير من الأقوال التي لا تعبّر عن أيّة مسؤولية عن قضايا العقيدة والحياة. إنه التساؤل الذي يواجه هؤلاء، حول ما اعتقدوه، وما عبدوه، ولا يملكون له جواباً، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} وما دبّروه للرسول وللرسالة من مكائد وأضاليل، وما أثاروه حولهما من شكوكٍ وشبهات، {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} القويم الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه، وذلك من خلال ما سوَّل لهم الشيطان وأولياؤه من أوهام، وزينه لهم من مواقف، وحرّكهم نحوه من مشاريع وأعمال. وهكذا تركهم الله لضلالهم، وأوكلهم إلى أنفسهم، بعدما بيّن لهم الحق وأضاء لهم السبيل، فتركوه وراء ظهورهم، وانطلقوا إلى عالم الظلمات، يتخبّطون فيها، {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} لأن للهداية وسائلها التي دل الله الإنسان عليها، فمن أخذ بها عن إرادة واختيار فقد أخذ بأسباب الهدى، ومن تركها عن تمرّدٍ وعناد فقد وقع في هاوية الضلال، ويتركه الله لنفسه، فيضلّ عن الهدى، ولا يجد من دون الله هادياً ولا نصيراً.
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} بما أعدّه الله لهم من عذابٍ نفسيّ أو جسديّ أو نحو ذلك {وَلَعَذَابُ الآخرةِ أشقّ} وأشدّ وأبلغ في تأثيره على الإنسان لدوامه وقسوته وكثرته، {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} يقيهم نتائجه، ويدفع عنهم ضرره أو يخلّصهم منه، لأن الله إذا أراد شيئاً في شخص، فلا يملك أحد أن ينصره من الله. وهكذا يواجه الكافرون المصير المحتوم، وجهاً لوجه، جزاء تمرّدهم وعنادهم وضلالهم.
تفسير القرآن