تفسير القرآن
الرعد / من الآية 35 إلى الآية 37

 من الآية 35 الى الآية 37

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ* وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ* وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (35ـ37).

* * *

معاني المفردات

{مَآبِ} المآب: المرجع.

{وَاقٍ}: الواقي: الحافظ.

* * *

الجنة عقبى المتقين والنار عقبى الكافرين

إذا كانت النار هي التي تنتظر الكافرين في الدار الآخرة ، فإن الجنة هي التي تنتظر المتقين في ما أعدّه الله لهم من رحمةٍ وكرامة.

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وهم الذين آمنوا بالله وعملوا بأوامره ونواهيه، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فتظلّ الأرض فيها في حالة إعشاب دائمٍ، وخضرةٍ متحركةٍ، وخصبٍ خصيب، {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} لا ينقطع في أي مكان منها وفي أيّ فصل من الفصول، فيمكن لهم أن يأكلوا من ثمارها كل حين، {وِظِلُّهَا} دائمٌ لكثافة أوراق أشجارها واستمراريتها على مدى الزمن، أو لحالةٍ أخرى لا يعلمها إلا الله، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} في ما أعدّه الله للتقوى من نتائج إيجابيةٍ شاملةٍ على مستوى الدار الآخرة {وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} لما يمثله الكفر من تمرّدٍ على الله، وجحودٍ به، دون حجّةٍ ولا برهان.

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} وهؤلاء هم الذين ينفتحون على الحق الذي عرفوه من الكتاب المنزّل على موسى، ووجدوه متطابقاً مع الحقيقة التوراتية، فعرفوا ـ من خلال ذلك ـ صدقك في ما تدعوهم إليه، واطمأنوا لدعوتك ورسالتك التي تجمّعت الشواهد على تأكيد صدقها.

وهؤلاء هم الذين لا يتحزّبون للإطار الذي يتحركون في داخله، ولا يتعصّبون لحدوده اسماً كان أو فئة أو شعاراً، بل ينفتحون على الحقيقة، ويلاحقونها أينما كانت، ويتنازلون عن كل شيءٍ من الماضي أو الحاضر لحسابها. وهذا هو الفرق بين من يؤمن بالفكرة ومن يتحزّب لشكليات التحرّك في خارجها.

ولكن من هم هؤلاء؟ ربما يذكر البعض أن المراد بهم أصحاب النبي الذين آمنوا به وصدقوه، أعطوا القرآن وفرحوا بإنزاله، فيكون المراد بالكتاب القرآن. ولكن هذا خلاف المصطلح الذي يستعمله القرآن في أهل الكتاب، فإن المراد به ـ في الظاهر ـ هو الكتاب المنـزل على موسى وعيسى وغيرهما، وهم اليهود والنصارى والمجوس.

وقد يكون المراد منهم أهل الكتاب الذين عاشوا في بداية البعثة كما يذكر صاحب تفسير الميزان، فيقول: وقد أثبت التاريخ أن اليهود ما كانوا يعاندون النبوّة العربية في أوائل البعثة وقبلها، ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة، وقد دخل جمع منهم في الإسلام أوائل الهجرة وشهدوا على نبوّة النبي(ص) وكونه مبشراً به في كتبهم، كما قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10].

وأنه كان من النصارى قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الإسلام كقومٍ من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة وجمع من غيرهم، وكذا كان المجوس ينتظرون الفرج بظهور مُنجٍ ينشر الحق والعدل، وكانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون، وهو قريب[1].

{وَمِنَ الأحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ}. ربما كان المقصود بهم هؤلاء الذين ينكرون التوحيد بمعناه القرآني، ويلتزمون التثليث ويختلفون مع الإسلام في بعض مفاهيمه وأحكامه، ويمتنعون عن الإيمان بالإسلام، انطلاقاً من الحالة الحزبية التي تغلق عليهم نوافذ التفكير وتضع الحواجز الذاتية والعصبية بينهم وبين معرفة الحقيقة.

ولكن الله يريد لنبيه أن لا يضعف أمام حالة الإنكار، ولا يتراجع عن دعوته، لأن القضية لديه واضحة وضوح الحقيقة في خط الوحدانية التي يبدأ فيها كل شيء من الله وينتهي إليه، لجهة تأكيد المفاهيم الإيمانية، وحلّ الإشكالات، ومواجهة التحديات. إنها الدعوة التي تختصر كل شيء بكلمة التوحيد في الحياة كلها.

{قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}، بما يمثله ذلك من توحيد في العقيدة والعبادة، على أساس الإيمان الداخليّ بالعقيدة كلها. وبذلك تكون الدعوة إلى الله لا إلى غيره منطلقةً من حالة معاناة داخلية موضوعها الفكرة التي تتحرك فيها الدعوة.

{إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} فهو المرجع في كل شيء، في الدنيا وفي الآخرة، وهو الملاذ، فكيف يرتبط الإنسان بغيره، أو يدعو إلى غيره أو يرجع إليه؟!

{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} بما يمثله القرآن من إرادة إلهية تحكم الحياة بالشريعة الشاملة التي تضمّنها القرآن النازل باللسان العربي الذي أراده الله، لأن الله لم يبعث نبياً إلا بلسان قومه. وقد يكون من الضروري أن نشير إلى خطأ الفكرة التي تستوحي من الصفة العربية للحكم، أن خصائص الذات العربية تتمثل في القرآن باعتباره حكماً عربياً ناشئاً من البيئة العربية أو الإنسان العربي، لأن الحديث عن الإنزال يدفع ذلك، كما أن الحديث عن مواجهة أهواء من حوله، أي البيئة العربية المحيطة به، يمثل رداً على ذاك الاستيحاء أيضاً.

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم} وما يريدون أن يضلّوك به، لتحصل على محبتهم وثقتهم ورضاهم {بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} من وحي الله، الذي يحقق لك وضوح الرؤية للحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك أو للريب، {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} ينصرك من دون الله، {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من عذابه، وهذا هو الخطاب الذي يوجهه الله إلى الأمة من خلال النبي، لأن القضية عندها في مستوى الوضوح، الذي لا يمكن أن يخضع فيه لأي ضعف أو تهديدٍ أو ابتزاز.

ـــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:11، ص:371.