من الآية 38 الى الآية 40
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأتِي بِـَآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ* يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتاب* وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (38ـ40).
* * *
يمحو الله ما يشاء ويثبت...
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} تماماً كما أنت عليه في كونك بشراً، بكل ما تفرضه البشرية عليك من حاجاتٍ ماديةٍ وعلاقاتٍ ومنها علاقات الزواج، وما ينتج عنها من تناسل. وبذلك فإنهم لا يحملون أيّة خصوصية غيبيّةٍ، تقربهم ولو بشكل محدود من حالة الألوهية، فليس لهم قدرة على تغيير نظام العالم بناءً على طلبٍ أو اقتراحٍ في تحويل الصحراء إلى جناتٍ وأنهار، وفي إسقاط السماء قطعاً متناثرةً على الأرض، أو غير ذلك، مما يتصوره الناس من قدرات من خصائص النبوّة وإمكاناتها، فهم عباد مكرمون مطيعون لله، لا يملكون عمل أيّ شيء في شؤونهم الخاصة إلا بالله، فكيف يملكون قدرة تغيير نظام الكون بذاتهم؟
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِي بِـَآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو إذن تقتضيه حكمته وتفرضه إرادته، إصلاحاً لأمر الناس وتقوية لحركة الرسالات، ولكنه ليس شيئاً لازماً للذات الرسولية، بل هو شيء يقوم به بطريقةٍ منفصلةٍ عن ذاته، وذلك بتعلق إرادة الله بالشيء بشكل مباشرٍ أو غير مباشرٍ، تبعاً للمصلحة العامة. {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} والظاهر أن المراد به، أن لكل وقتٍ من الأوقات حكماً معيناً يكتبه الله ويحكم به، تقديراً للأشياء في أوقاتها.
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتابِ}: هل هذه الفقرة من الآية تتعلق بالمحو والإثبات في عالم المعرفة، وما يبديه الله للناس من علوم، دون أن يبيّن لهم شروط وجود الأشياء وبقائها، فيمحو الله بعض ما أثبته في علم الناس لمصلحةٍ ما، ويثبت بعض ما محاه لديهم، دون أن يختلف علمه في ذلك كله، لأن لديه علم حقيقة الأشياء الذي تعبر عنه كلمة أم الكتاب؟
أم أن هذه الفقرة تتعلق بالمحو والإثبات في عالم التكوين، باعتبار أن الله يتصرّف في الكون، فيغيّر ما يريد تغييره، ويمحو ما أثبته من ظواهر الكون وأحداث الحياة، ويثبت بعض الأشياء وعنده أم الكتاب، باعتبارها الأساس في ما أجراه من سنن وقوانين حاكمةٍ على طبائع الأشياء، وبما توحيه الكلمة من أن للأشياء أساساً ثابتاً عند الله؟
ربما كان المعنى الثاني هو الأقرب لكلمة: «لكل أجل كتاب» في ما توحيه من أن للأوقات خصائصها في حكم الله على القضايا والأوضاع والأحداث، سلباً أو إيجاباً، فقد يثبت الله شيئاً في وقت، ثم يمحوه في وقت آخر، أو العكس، لأن الاختلاف في مقتضيات الأشياء باختلاف الأوقات منطلق من إرادة الله في المحو والتثبيت، لا من خصائص الأشياء الذاتية، وبذلك تكون الفقرة بمثابة التعليل للثانية، فيتحقق الانسجام بين الفقرتين.. ولعل هناك وجوهاً أخرى يذكرها المفسرون، لا تعدو أن تكون مجرد احتمالاتٍ أو تخصيصاتٍ بأمور لا دليل عليها من سياق الآية، والله العالم.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من عذاب الدنيا وبلائها {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فلا تراه، فلا مشكلة في ذلك، لأن مسألة عقابهم في الدنيا ليست مسؤوليتك، ومسؤوليتك فقط تنحصر في التبليغ والدعوة والإرشاد.
{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} الذي تقيم به الحجة على الناس أمام الله {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} بعد ذلك، بما يمثله عملهم من نتائج سلبية أو إيجابية على مستوى المصير.
تفسير القرآن