تفسير القرآن
الرعد / من الآية 41 إلى الآية 43

 من الآية 41 الى الآية 43

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـــات

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ* وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ* وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب} (41ـ43).

* * *

سنة الله في الكون.. عبرة متجددة

وتبقى سنة الله في الكون قصةً ًمتجددة يريد الله لعباده استلهامها من أجل وعيٍ منفتح للحياة في ما يجب عليهم أن يثيروه في داخل أنفسهم، ليثبتوا به إيمانهم، ولتخشع به قلوبهم لذكر الله.

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، بما نهلكه من ناسٍ عليها وبما نغيره فيها من ازدهارٍ ونحوّله إلى خراب، حتى تظل في حالة نقصان دائم من أهلها، الذين يعمرونها بالعلم والحضارة وغير ذلك، الأمر الذي يوحي بغلبة الله وسيطرته على الكون، فلا يتمّ شيءٌ إلا ويتحوّل إلى نقصٍ، ولا يعمر شيءٌ إلا ليصير إلى خراب، فلا يملك الناس من أمرٍ يريدونه من خلودٍ وكمالٍ وازدهار شيئاً، لأن إرادة الله هي التي تحكم كل جوانب حياتهم بسننه الحتمية في الكون، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} فإذا أراد شيئاً، فإن إرادته هي الغالبة القاهرة التي لا يغلبها شيء ولا يقهرها أحد، ولا مجال لأحدٍ أن يكون له حكم في مقابل حكمه ليتابعه وليمنعه من الثبات والبقاء، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يحتاج في حسابهم إلى جهدٍ، ولا يتوقف على أيّ شيء مما اعتاد الناس أن يتوقفوا عنده، ليمنعهم مما يريدونه وليؤخرهم عما يقصدونه، {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فدبّروا ما شاءت لهم حيلتهم في التدبير ليبطلوا سنة الله في نصرة رسله وإتمام رسالته، {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} فهو المدبّر القويّ الذي يهيئ الأسباب للنصر من حيث لا يشعرون، وهو الذي يقهر كل خططهم ويبطل كل مكرهم بالطرق الخفية الدقيقة التي ينظم بها الأمور ويحكم بها الكون، {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} فيحيط بها من حيث تعلم ومن حيث لا تعلم، فلا تملك أمامه أي سبب من أسباب القدرة على منع حكمه فيها في الدنيا والآخرة، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ*وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} عندما يقوم الناس لرب العالمين، وينطلق المحسنون المؤمنون المتقون إلى الجنة في رضوان الله ونعيمه، جزاءً لأعمالهم الصالحة. ويلتفت الكافرون ليروا أنفسهم في ضياعٍ، وضلالٍ يؤديان بهم إلى النار، فتتحول كل أعمالهم في الدنيا إلى حسراتٍ عليهم، دون أن يملكوا تغيير أيّ شيء منها.

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو، أي الله تعالى، الذي يعلم صدق ما أقول مما ألهمني إيّاه، وأوحى إليّ به، فارجعوا إلى وجدانكم الصافي، بعيداً عن كل تعقيدات الهوى والأنانية والبغضاء، كما رجعت إلى صفاء الرؤية في وجداني، في ما عشته من وحيه وقرآنه، فستجدون ما أقوله حقاً، وستملكون وضوح الرؤية للأشياء من خلال ذلك، لأن المشكلة في كل هذا، هي الكفر الذي تعيشونه أو تدعون إليه، والذي يصيب تفكيركم بخلل كبير، فلا تملكون معه إمكانية الوصول إلى الحقيقة.

وهذا الاستشهاد بالله، يوحي بالثقة المطلقة التي يعيشها النبي(ص) في وعيه للحق في رسالته وفي قوّة موقفه، بحيث يستطيع أن يواجه العالم كله بشهادة الله له، وبالارتكاز إلى رجوع كل إنسان إلى صفاء وجدانه بعيداً عن غشاوة الهوى وظلمة الكفر ليعرف الحقيقة من أقرب طريق. والاستشهاد بالله أيضاً، للذين يستلهمون وجدانه، فإذا لم يكتفوا بذلك، أو لم يريدوا استلهام المعرفة منه، فثمة طريق آخر. {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} الذي أنزله الله على موسى وعيسى، مما يشهد بصدق رسالته، لأن الكتاب جاء مبشّراً به ومصدقاً لرسالته.

وقد يستوحي الإنسان من هذه الفقرة قوّة التحدّي وثبات الموقف، عندما يضع أهل الكتاب الذين تخصّصوا في معرفته، وجهاً لوجه أمام هذه الحقيقة، ليخرجوا الكتاب أمام الناس، ليكون الحجة الدامغة في صدق دعواه وصحة رسالته.